[ ص: 91 ] وفي زمان يزدجرد هذا هلك امرؤ القيس بن عمرو بن امرئ القيس ، واستخلف مكانه ابنه النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي ، وهو صاحب الخورنق .
وكان سبب بناء الخورنق : أن يزدجرد الأثيم كان لا يبقى له ولد [ فولد له بهرام ] فسأل عن منزل صحيح من الأدواء والأسقام . فدل على ظهر الحيرة . فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا ، وأمره ببناء الخورنق مسكنا له ، وأنزله إياه .
فبعث إلى الروم فأتي منها برجل مشهور بعمل الحصون والقصور للملوك يقال له: سنمار ، فكان يبني مدة يغيب - يقصد بذلك أن يطمأن إلينا ، فبناه في سنتين ، فلما فرغ من بنائه صعد النعمان عليه ومعه وزيره وسنمار ، فرأى البر والبحر ، وصيد الظبيان والظباء والحمير ، ورأى صيد الحيتان والطير ، وسمع غناء الملاحين وأصوات الحداة ، فعجب بذلك إعجابا شديدا ، وكان البحر حينئذ يضرب إلى النجف ، فقال له سنمار متقربا إليه بالحذق وحسن الصنعة: إني لأعرف من هذا البناء موضع حجر لو زال لزال جميع البنيان . فقال: لا جرم لا رغبة ، ولا يعلم مكان ذلك الحجر أحد . ثم أمر به فرمي من أعلى البنيان فتقطع .
وقيل: إنهم لما تعجبوا من حسنه وإتقان عمله قال سنمار - [ وكان قد جاءوا به من الروم لبنائه ]: لو علمت أنكم توفونني أجرتي وتصنعون لي ما أنا أهله بنيته بناء يدور مع الشمس حيثما دارت ، فقال: وإنك لتقدر على أن تبني ما هو أفضل منه ثم لم تبنه! ثم أمر به فطرح من رأس الخورنق [ فمات ] ، فكانت العرب تضرب بذلك مثلا فتقول: [ وكان ] جزاء سنمار " .
قال سليط بن سعد : [ ص: 92 ]
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزى سنمار
وقال آخر:جزاني جزاه الله شر جزائه جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
وإنه جلس يوما في مجلسه من الخورنق ، فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخيل والأنهار مما يلي المغرب ، وعلى الفرات مما يلي المشرق في يوم من أيام الربيع ، فأعجب بما رأى من الخضرة والأنهار فقال لوزيره: هل رأيت مثل هذا المنظر قط! فقال: لا ، لو كان يدوم! ؟ . قال: فما الذي يدوم ؟ قال: ما عند الله في الآخرة . قال: فبم ينال ذلك ؟ قال: بترك الدنيا وعبادة الله . فترك ملكه من ليلته ، ولبس المسوح ، وخرج مستخفيا هاربا لا يعلم به أحد ، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله .
وفي ذلك يقول : عدي بن زيد
وتبين رب الخورنق إذ أصبح يوما وللهدى تفكير
سره حاله وكثرة ما يلقاه والبحر معرض والسدير
فارعوى قلبه فقال وما غبطة حي إلى الممات يصير