الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 213 ] قال ( الزنا يثبت بالبينة والإقرار ) والمراد ثبوته عند الإمام لأن البينة دليل ظاهر ، وكذا الإقرار لأن الصدق فيه مرجح لا سيما فيما يتعلق بثبوته مضرة ومعرة ، والوصول إلى العلم القطعي متعذر ، فيكتفى بالظاهر . [ ص: 214 ] قال ( فالبينة أن تشهد أربعة من الشهود على رجل أو امرأة بالزنا ) لقوله تعالى { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقال الله تعالى : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } { وقال عليه الصلاة والسلام للذي قذف امرأته ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك } ولأن في اشتراط الأربعة يتحقق معنى الستر وهو مندوب إليه والإشاعة ضده

التالي السابق


( قوله الزنا يثبت بالبينة والإقرار ) ابتدأ بحد الزنا لكثرة وقوع سببه مع قطعيته عن كتاب الله تعالى ، بخلاف السرقة فإنها لا تكثر كثرته ، والشرب وإن كثر فليس حده بتلك القطيعة ، والزنا مقصور في اللغة الفصحى لغة أهل الحجاز التي جاء بها القرآن ، قال الله تعالى : { ولا تقربوا الزنا } وتمد في لغة نجد ، وعليها قال الفرزدق :

أبا طاهر من يزن يعرف زناؤه ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا

بفتح الكاف وتشديدها من التسكير ، والخرطوم من أسماء الخمر ، قال : والمراد ثبوته عند الحكام ، أما ثبوته في نفسه فبإيجاد الإنسان للفعل ; لأنه فعل حسي ، وسيذكر المصنف تعريف الزنا في باب الوطء الذي يوجب الحد وهناك نتكلم عليه ، وخص بالبينة والإقرار لنفي ثبوته بعلم الإمام ، وعليه جماهير العلماء ، وكذا سائر الحدود .

وقال أبو ثور ونقل قولا عن الشافعي أنه يثبت به وهو القياس ; لأن الحاصل بالبينة والإقرار دون الحاصل بمشاهدة الإمام . قلنا : نعم ، لكن الشرع أهدر اعتباره بقوله تعالى { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } ونقل فيه إجماع الصحابة ، وقول المصنف : لأنها دليل ظاهر تعليل للواقع من النصوص الدالة على ثبوته بالبينة والإقرار فإنها يثبت بها غير مفتقر إلى هذا المعنى . وحاصله لما تعذر القطع اكتفى بالظاهر ، وهو في البينة وفي الإقرار أظهر ; لأن الإقرار بسبب الحد يستلحق مضرة في البدن ومعرة في العرض توجب نكاية في القلب فلم يكن

[ ص: 214 ] الإقدام عليه إلا مع الصدق دفعا لضرر الآخرة على القول بسقوطه بالحد إن لم يتب وقصدا إلى تحقيق النكاية لنفسه إذ ورطته في أسباب سخط الله تعالى لينال درجة أهل العزم

( قوله فالبينة أن تشهد أربعة من الشهود ) ليس فيهم امرأة ( على رجل أو امرأة بالزنا ) ، ويجوز كون الزوج منهم عندنا ، خلافا للشافعي ، هو يقول هو متهم ونحن نقول : التهمة ما توجب جر نفع ، والزوج مدخل بهذه الشهادة على نفسه لحوق العار وخلو الفراش خصوصا إذا كان له منها أولاد صغار ، وإنما كانت الشهود أربعا لقوله تعالى { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقال تعالى { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } ، وأما الحديث الذي ذكره المصنف وهو قوله صلى الله عليه وسلم للذي قذف امرأته بالزنا : يعني هلال بن أمية { ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك وإلا فحد في ظهرك } فلم يحفظ على ما ذكر ، والذي في البخاري { أنه عليه الصلاة والسلام قال البينة وإلا فحد في ظهرك } نعم أخرج أبو يعلى في مسنده : حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي ، حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن ابن سيرين عن أنس بن مالك قال : { أول لعان كان في الإسلام أن شريك ابن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته ، فرفعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : أربعة شهود وإلا فحد في ظهرك } والمسألة وهي اشتراط الأربعة قطعية مجمع عليها .

ثم ذكر أن حكمة اشتراط الأربعة تحقيق معنى الستر المندوب إليه ، واقتصر عليه لنفي قول من قال : إن حكمته أن شهادة الزنا تتضمن الشهادة على اثنين ، وفعل كل واحد يحتاج إلى اثنين فلزمت الأربعة ، أما إن فيه تحقيق معنى الستر فلأن الشيء كلما كثرت شروطه قل وجوده ، فإن وجوده إذا توقف على أربعة ليس كوجوده إذا توقف على اثنين منها فيتحقق بذلك الاندراء . وأما إنه مندوب إليه فلما أخرج البخاري عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم { من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة ، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه } وأخرج أبو داود والنسائي عن عقبة بن عامر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة } وإذا كان الستر مندوبا إليه ينبغي أن تكون الشهادة به خلاف الأولى التي مرجعها إلى كراهة التنزيه ; لأنها في رتبة الندب في جانب الفعل وكراهة التنزيه في جانب الترك ، وهذا يجب أن يكون بالنسبة إلى من لم يعتد الزنا ولم يتهتك به ، أما إذا وصل الحال إلى إشاعته [ ص: 215 ] والتهتك به بل بعضهم ربما افتخر به فيجب كون الشهادة به أولى من تركها ; لأن مطلوب الشارع إخلاء الأرض من المعاصي والفواحش بالخطابات المفيدة لذلك ، وذلك يتحقق بالتوبة من الفاعلين والزجر لهم ، فإذا ظهر حال الشره في الزنا مثلا والشرب وعدم المبالاة به وإشاعته فإخلاء الأرض المطلوب حينئذ بالتوبة احتمال يقابله ظهور عدمها ممن اتصف بذلك تحقيق السبب الآخر للإخلاء وهو الحدود ، بخلاف من زنى مرة أو مرارا متسترا متخوفا متندما عليه فإنه محل استحباب ستر الشاهد . { وقوله عليه الصلاة والسلام لهزال في ماعز لو كنت سترته بثوبك } الحديث ، وسيأتي كان في مثل من ذكرنا ، والله سبحانه أعلم .

وعلى هذا ذكره في غير مجلس القاضي وأداء الشهادة يكون بمنزلة الغيبة فيه يحرم منه ما يحرم منها ويحل منه ما يحل منها . وأما إن المختار في الحكمة ما ذكره المصنف فلأن شهادة الاثنين كما تكون على فعل واحد تكون معتبرة على أفعال كثيرة ، كما لو شهدوا أن هؤلاء الجماعة قتلوا فلانا ونحوه ، فالمعول عليه ما ذكره المصنف




الخدمات العلمية