الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 13 ] الركن الثاني : الموصى له .

                                                                                                                وفي الجواهر : يصح لكل من يصح له الملك ويتصور ، فلو أوصي لحمل امرأة فانفصل حيا صحت الوصية ؛ لأن مصالح المال يمكن حصولها من الحمل في المستقبل ، كما جوز شراء الجحش الصغير وإن كان في الحال لا يحصل منه مقصود الملك بل باعتبار المآل ، ولو أسقطته بعد موت الموصي ولم يستهل صارخا بطلت الوصية لانكشاف الغيب عن بطلان أهلية الملك ، وقاله في الكتاب ولو أوصى لحمل سيكون صح لتوقع الانتفاع كبيع الرضيع .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال اللخمي : تجوز وصيته لعبده وعبد وارثه إذا لم يكن معه وارث سواه ؛ لأنه له انتزاعه ، فليس فيه ازواء عنه ، وإن كان معه وصايا حاص بوصيته ، وإن كان معه وصايا جازت فيما قل نحو الثوب والشيء الخفيف لعدم التهمة ، وبأكثر من ذلك لقضاء دين عليه ، والقضاء يزيد في ثمنه الشيء اليسير ؛ لأنه لا يتهم في الوصية لسيده الوارث حينئذ ، وتجوز وصيته لمدبره وولده وأم ولده باليسير ، وللمكاتب بالكثير لكونه أحرز ماله كالأجنبي إن كان يقدر على أداء كتابته من غير الوصية ، قال أشهب : فإن لم يقدر إلا من الوصية ، والأداء أفضل لسيده - امتنع ، أو العجز أفضل جازت لعدم التهمة ، قال : وأرى الجواز مطلقا ؛ لأن القصد الخروج من الرق ، فقد اختلف فيمن زوج أمته في مرضه وضمن الصداق ، فقيل : الضمان جائز وهي وصية للزوج : وإن كانت المنفعة تصير للابنة ، وقيل يمتنع ، وقال ( ش ) : الوصية لعبد الوارث وصية للوارث ؛ لأن العبد لا يملك عنده فتمتنع ، وكذلك الوصية لعبد نفسه ؛ لأن وقت نفوذ الوصية ملك للوارث ، بخلاف أم [ ص: 14 ] الولد والمكاتب والمدبر ، والوصية عنده لعبد الغير وصية للسيد ، ويقبل العبد دون إذن سيده قياسا على تملكه بالأسباب الفعلية كالصيد والاحتطاب ، قال اللخمي : وإذا أوصى لعبده أو لعبد وارثه لا ينتزع الورثة ولا سيد العبد الوصية ؛ لأنه يؤدي إلى بطلانها ، وإن يبع بيع بماله ، وللمشتري الانتزاع لعدم منافاة الوصية . وقال أشهب : بتفريد العبد حتى ينتفع بها ويطول زمان ذلك ، ولا ينتزعونها إن باعوه قبل الطول ، قال : والأحسن عدم الانتزاع مطلقا ؛ لأنه قصد الموصي ، قال : وكذلك المشتري ؛ لأن البيع على أن ينتزع كانتزاع الوارث ، وأجاز ابن القاسم إذا أوصي لعبد أجنبي أن ينتزع سيده . قال : والقياس عدم الانتزاع لما تقدم ، وفي الجواهر : لا يفتقر في القبول إلى إذن سيده ؛ لأنه صحيح العبارة وإنما حجر عليه السيد .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الجواهر : تصح الوصية للمسجد والقنطرة ونحوهما وإن لم يملكا ؛ لأن الوصية للمسلمين لحصول تلك المصالح لهم .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : تصح للذمي كالصدقة عليه ، قال : وكرهها أبو الحسن للحربي ومنعها ( ش ) للحربي ولكل ما لا قربة فيه لقوله عليه السلام : ( إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعمالكم زيادة في حسناتكم ) وما لا قربة فيه لا حسنة فيه .

                                                                                                                وجوابه : له الصرف للحربي وفي المباح حالة الحياة ، ولو وهب الحربي ثلث ملكه إجماعا فكذلك بعد الوفاة عملا بالقياس والاستصحاب .

                                                                                                                قال صاحب المنتقى : تجوز الوصية للذمي والحربي ، وقيل : تمتنع وقاله ( ح ) .

                                                                                                                [ ص: 15 ] فرع

                                                                                                                قال التونسي في كتاب محمد : لو أوصى لأخيه وارثه فولد له ثبتت الوصية لصيرورته محجوبا غير وارث ، وكذلك لو ظهر له حمل بعد موته ، وعند ابن القاسم إنما ثبتت الوصية إذا علم بالولد حتى يكون مجيزا لها ، وأما إقراره بالدين لغير وارث فصار وارثا يلزمه لعدم التهمة عند الإقرار بخلاف الوصية ؛ لأن له الرجوع عنها ، فكأنه أنشأها بعد أن صار وارثا ، وفي كتاب محمد : حمالته في مرضه عن وارثه جائزة صح أم لا ، وولد له في مرضه ، ولو مات ذلك الولد فعاد وارثا على حاله ثبتت الحمالة ، قاله أشهب ، ومشهور ( ش ) أن المعتبر من هو وارث عند الموت وقبل يوم الوصية ، وروي عنه : الوصية للوارث باطلة ؛ لقوله عليه السلام : ( لا وصية لوارث ) وعند الصحة ، ويتوقف على إجازة الورثة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تجوز لوارث وصية إلا أن يشأ الورثة ) ووافقنا في جواز البيع من الوارث بغير محاباة كالأجنبي ومنع ( ح ) ؛ لأنه يخصه بعين المبيع ، والورثة يستحقون ذلك ، وكذلك تمتنع الوصية له بالثلث وإن كان يملك صرفه للأجانب ، وجواب الأول : لا نسلم استحقاق الورثة للعين بل لهم الثلثان شائعان فقط . وعن الثاني : أن الوصية له بالثلث بغير الفرض المقدر له شرعا .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا أوصى لوارث وأجنبي تحاصا وحط الوارث موروثا إلا أن [ ص: 16 ] يجيز الورثة ، فإن لم يبتد إلا هذا الوارث لم يحاصص في ضيق الثلث و بدى الأجنبي ، قال يحيى بن سعيد : إن أوصى بثلثه في السبيل : فإن أراد وارثه الغزو به وله ورثة غيره يريدون الغزو غزوا فيه بالحصص لئلا يختص بعض الورثة بشيء من التركة . فإن لم يرثه غيره أنفق منه في ذلك ، قال ربيعة : لو أوصت لبعض الورثة بوصية وفي السبيل بوصية أخرى فأجاز الزوج ثم قال : إنما أجزته رجاء أن يعطوني في وصية السبيل ؛ لأنه غاز ، ليس ذلك له ، وبعدما أجازه ، قال صاحب النكت : قال بعض الشيوخ في قول سعيد يغزون بالحصص أي بقدر كفايتهم ، فإن ضاق الثلث تحاصوا بمقادير الكفاية على قدر مواريثهم ، قال ابن يونس : إن أوصى لجميع ورثته وأجنبي ، وأنصباؤهم في الوصية والميراث سواء ، فالأجنبي مقدم لتقدم الوصية على الميراث إلا أن يكون الورثة ذكورا وإناثا ، وسوى بينهم في الوصية فيعلم أنه خص الإناث بزيادة على ميراثهم فيحاصص الأجنبي ، واختلف في صورته ؛ فقال ابن القاسم : إذا أوصى لأبيه ولابنته وأجنبي كل واحد بمائة تحاصص الابنة بخمسين ؛ لأنها الزيادة على ميراثها لما أعطي الذكر مائة ، وقال غيره : تحاصص بثلث المائة ؛ لأن أصل ميراثها من مائتين لثلاثمائة فتحاصص بالزائد ، قال ابن وهب : إن أوصى بثلثه لإخوته وهم شقيقان وأخوان لأم ، وأخوان لأب ولم يدع غيرهم ، قسم الثلث ستة ؛ فحصة أخوي الأب لهما ؛ لأنهما لا يرثان ، ويضم الباقي إلى ثلثي المال ميراثا ولو أوصى لهم بذلك وله ابن فمات الابن قبل موته فالجواب سواء ، قال مالك : إذا أوصت لبعض ورثتها فقال الزوج : بئست الوصية ، وما علمت أنه لا وصية لوارث ، يحلف ولا يلزمه ذلك ، قال اللخمي : قال عبد الملك : إن ترك وارثا واحدا وأوصى بثلثه لأجنبي ، ثم قال : ثلثي لوارثي أو عكس إن تأخر الأجنبي فله الثلث أو الوارث فله الثلث ؛ لأنه انتزاع من الأجنبي ، فجعل الثلث كالعبد المعين يوصى به مرتين ، قال صاحب المنتقى : قال عبد الوهاب : إذا أوصى لوارثه وأجنبي فيه تفصيل : إن كان مع الوارث وارث آخر : فعن مالك : يحاص [ ص: 17 ] الأجنبي في الثلث فما صار له أخذه . أو للأجنبي فميراث ، وإن لم يكن معه وارث غيره يعلم إرادة تفضيله عليه ، أو أوصى لجميع الورثة مع الأجنبي وقد استووا في الوصية وسهام الميراث فلا محاصة .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال الأبهري : قال مالك : إذا أوصى لوارث فباع الوارث العين بعد موت الموصي فللورثة الثمن لا القيمة إذا لم يحاب ؛ لأنه باع بشبهة ، فإن حابى فلكل وارث رد ما يخصه ، وإن فات لزم البائع في ماله ، فلو ابتاع ما قيمته عشرة بعشرين من وارثه أو بالعكس قال ابن القاسم : إن لم يجز الورثة فسخ البيع وليس له إتمام الفضل ؛ لأن العقد عدل به عن البيع إلى وصية لوارث ، وقال أشهب : له ذلك ؛ لأن المنع إنما كان لأجل الفضل .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب يجوز لولد الولد إذا لم يرث ، فإن مات أحدهم وولد غيرهم بعد موت الموصي قبل القسمة فذلك كقوله : لأخوالي وأولادهم أو بني أخي أو لبني فلان ، فهو لمن حضر القسم ، ولا يحسب من مات بعد موت الموصي ، ولا يحرم المولود بعده ؛ لأنه لم يعين أحدا ، وكذلك لموالي فلان فيموت البعض ( ويولد البعض ) ويعتق آخرون ، وإن قال : لهؤلاء - وهم عشرون - فمن مات فنصيبه لورثته لأجل التعيين . قيل لابن القاسم : لو قال : ثلثي لولد فلان وهم عشرة : قال : قال مالك : إذا أوصى بحبس داره أو ثمرة حائطه على ولد فلان ، يؤثر المحتاجون ، ولم أسمع منه في الوصية شيئا ، وأراهما سواء . قال سحنون : وهذه المسألة أحسن من قوله فيمن أوصى لأخواله وأولادهم ، وقد روى ابن وهب مثل [ ص: 18 ] رواية ابن القاسم ، وليس الوصية لأخواله بشيء ناجز كوصيته بغلة موقوفة تقسم إذا حضرت كل عام ، ووصيته لأخواله وولد فلان بمال ناجز ، وهم معروفون لقلتهم ويعلم عددهم كالوصية للمعينين بخلاف الحبس على بني تميم أو المساكين فهو لمن حضر القسمة ، قال صاحب التنبيهات : تأول سحنون أنه اختلاف من قول ابن القاسم لقوله أولا : إنما تكون لمن أدرك القسم فجعلهم كالمجهولين ، ولقوله أخيرا : هو بينهم بالسوية أنه جعلهم كالمعينين المعروفين ، والخلاف فيه معلوم ، وقال عبد الملك : يحمل على التعيين حتى يعلم أنه أراد التعقيب . وهو قول سحنون بخلاف قوله لبني تميم ، ولأشهب قولان ، أحدهما : مثل هذا ، والآخر يحمل على الجهالة ، ويقسم على من حضر دون من مات . ورواه عن مالك ، وقاله محمد إلا أن يسميهم أو يعلم أنه قصد أعيانهم ، وقال غير سحنون : ما في الكتاب ليس بخلاف ، وإنما تكلم على صفة اختلاف القسم بين الوصايا والحبس ، قال صاحب النكت : قال بعض القرويين : إذا أوصى لبني فلان فعلى ثلاثة أوجه : إن لم ينضبطوا لكثرتهم فلمن حضر القسم اتفاقا ، أو معروفين فنصيب الميت باق اتفاقا ، ويقسم بالسواء بينهم ، أو ينحصروا بعد مشقة فهو موضع الخلاف ، قال التونسي : لو أوصى لولد فلان ولا ولد له وهو يعلم ، ثم ولد له ، ينبغي له أن يوقف ذلك حتى يكبر وينتفع ويوقف لغيره حتى ينتفعوا ؛ لأنه لما علم عدم الولد فقد قصد نفع الذرية بجملتهم فلا يختص بالانتفاع بعضهم حتى ينقرضوا فيكون لورثتهم ، وحكي عن بعض الناس أنه لأول ولد بتلا .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية