الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : قال مالك : أوصى أن يشترى عبد بعشرة فيعتق عنه فوجد عبد بعشرين فقال : أخو العبد للسيد وهو حر : بعه بعشرة وأنا أعطيك عشرة فباعه بعشرة ولم يعلم الوصي ، فهو عيب يرجع به على البائع من الثمن ؛ لأن الأخ قد شارك في العتق فما دفع فكأنه أعتق النصف ، والوصي النصف . قال ابن القاسم : وتنظر قيمته بغير شرط العتق وبشرطه ، ويرجع بما بين القيمتين . قال : وليس بصواب ، بل هو كالذي استحق نصفه ويجعل ذلك في رقبة أخرى ، فإن كانت الوصية في عتق واجب لم يجز ، وضمن الموصي عند أشهب ؛ لأن الخطأ في الضمان كالتفريط ، ويشتري رقبة أخرى فيعتقها عن الموصي ولا يضمن عند ابن القاسم لعدم علمه ، ويرجع على الورثة في باقي الثلثين .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال مالك : أوصى بوصايا وماله دين ، فاستأجر الوصي على تخليصه لم يكن على الموصى لهم شيء من الأجرة ؛ لأنه لم يوص لهم بدين بل بما يتخلص . وقال ابن نافع : إن لم يكن في الثلث فضل فعليهم حصتهم ؛ لأن الوصايا لا تزيد على الثلث .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : قال ابن القاسم : إذا أوصى برقيقه أو غيره فبدله فله ما يوجد عند الموت [ ص: 145 ] من البدل ؛ لأن الوصية إنما يقصد بها حالة الموت ، أما لو عينه فثلاثة أقوال : يتعين العبد والزرع توفية باللفظ ، لا يتعينان ؛ لأن مقصود الوصية إنما هو عند الموت فهو يعلم أن له الرجوع والاستبدال ، يتعين العبد دون الزرع ونحوه لتعلق حق العبد ، والجماد لا حق له ، واختلف هل يتعين العبد بالتسمية والصفة ؟ عينه ابن القاسم نظرا للفظ ، وقيل : لا يتعين ؛ لأن مقصود هذه التعينات الإشارة للنوع دون الشخص .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : قال مالك : أوصى أن يشترى عبد وارث له فيعتق عنه فزاد الوارث مثل ثلث الثمن ؛ لأن الوصية مقصدها : المعروف والإيثار فتحمل هاهنا عليه ، والثلث أصل في الوصايا ولم يتهمه ، وهو خلاف ما في المدونة ، واتهمه في الوصية لوارثه ، ولو فرق بين العالم بوجه الحكم لكان وجها .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : قال مالك : أوصى بعتق نصيبه من عبد وعتق نصيب شريكه : لزم ذلك شريكه ؛ لأنه من باب التقويم ، وعنه : لا يجبر ويعتق نصيبه وحده ؛ لأن الميت لا يقوم عليه . وقال ( ش ) يكمل على الميت في ثلثه قياسا على الحي ، والفرق عندنا : انتقال المال وبطلان الملك والأهلية .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال الأبهري : قال مالك : سلاحي في سبيل الله ، لا يجعله الوصي حبسا بل يجتهد فيه فيملكه من يقاتل في سبيل الله تعالى .

                                                                                                                [ ص: 146 ] فرع

                                                                                                                قال : قال مالك : أوصى بثلثه في سبيل الخير ، فقضى الوصي منه دينا بغير بينة ضمنه ؛ لأنه متعد بعدم البينة .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : قال مالك : ما اكتسبه العبد الموصى به بعد الموت وقبل الجمع للتركة فللموصى له ؛ لأنه بالموت صار على ملكه .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال صاحب المنتقى : قال ابن القاسم : هو مدبر وإن لم أحدث فيه حدثا فهو وصية ، وكذلك : عبدي مدبر بعد موتي ؛ لأنه تصرف غير مبتوت الآن ، وإن مت من مرضي فعبدي مدبر ، لا يرجع فيه ؛ لأن شأن التدبير التعلق بالموت ، وإن قال : هو حر يوم أموت : قال مالك : إن أراد التدبير فهو تدبير ، وإلا فوصية ؛ لأنها الأصل .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : قال مالك : إذا أعتق المريض أو الحامل أو تصدقا ، ولم يقل : إن مت ، ثم صح فقال : أردت : إن مت ، فيستدل بالقرينة على قصده ، وقال في مريض قيل له : أوص ، فقال : فلان حر ، ثم صح فقال : أردت بعد موتي : يصدق لقرينة تقدم الأمر بالوصية ، ومتى عدمت القرائن فهو بتل ؛ لأنه ظاهر اللفظ .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                شرع الله تعالى الوصية وشرع الرجوع فيها لطفا بالعباد بتوفير عزومهم على [ ص: 147 ] تكثير الوصايا ، وقاله الأئمة ، فلو اعتقد المريض تعذر الرجوع لامتنع من الوصية خشية الصحة فيذهب عليه ماله . فإذا علم أن له الرجوع صحيحا ومريضا استكثر من الوصايا حتى لو أمكنه استيعاب ماله استوعبه بتقديم ماله بين يديه ، ويسعد الموصى له بالوصايا . قال صاحب المقدمات : له الرجوع في وصية الصحة والمرض في الصحة والمرض وليس له الرجوع في التدبير ، واختلف إذا قال : إن مت فعبدي حر ، هل هو وصية حتى يعلم التدبير ؟ قاله ابن القاسم : أو تدبير حتى تعلم الوصية ؟ قاله أشهب ، ثم الرجوع قد يكون بالصريح ، وقد يكون بالمحتمل فتقسم التصرفات ثلاثة أقسام : منها ما يدل على الرجوع ، وما لا يدل ، وما هو متردد ، ويتضح ذلك بسرد فروع المذهب ، وقال ابن يونس : إذا أوصى بدين ثم اقتضاه فأنفقه أو أودعه فهو رجوع ، قاله ابن القاسم ، ولو أوصى بزرع فحصده أو بتمر فجذه أو بصوف فجزه ليس برجوع ؛ لأنه من مصالح ذلك لهلاكه بالتأخير إلا أن يدرسه ويشيله إلى بيته فهو رجوع ، ورهن العبد ليس برجوع وكذلك الإجارة والأجرة للموصى له ؛ لأن الرهن قد يكون بالعارية ، وإجارة الفضولي صحيحة ، قاله مالك ، وإن صبغ الثوب فهو بصبغه للموصى له ، وكذلك غسله ، ويحمل على زيادة في الوصية ، وكذلك تجصيص الدار وزيادة البناء لعدم تغيير الاسم عن حاله ، قال أشهب : وبناء العرصة دارا رجوع لتغيير الاسم ، ولو هدم الدار حتى بقيت عرصة فليس برجوع ؛ لأنها موصى بها ولا شيء له في النقض ، وقال ابن القاسم : العرصة والنقص للموصى له ؛ لأن الجميع موصى به ، قال : وإذا لت السويق وصبغ الثوب فهما شريكان بقدر الصبغ واللت ؛ لأن الأصل بقاؤهما على ملكه ، قال ابن القاسم : نسج الغزل وقطع الثوب رجوع ؛ لتغيير الاسم . قال أشهب قطع القميص قباء أو الجبة قميصا ، والبطانة يبطن بها أو الظهارة يبطنها [ ص: 148 ] ببطانة ، أو القطن يحشى به ، أو الغزل ينسج ، أو الفضة تصاغ ، أو الشاة تذبح رجوع لقوة هذا التصرف وتغيير الاسم في بعضها ، وإذا اشتري الموصى به قبل الموت عادت الوصية للموصى له ؛ لأن الوصية إنما تعتبر عند الموت ، وإن أوصى له بعبد في غير ماله أن يشترى له فملكه بميراث أو هبة نفذت الوصية ؛ لأن المقصود تحصيله له ، ولو أعتق عبده في مرضه فقيل له جهلا : لا يجوز منه إلا الثلث فقال : أعتقوا ثلثه هو رجوع ، ولا يعتق إلا الثلث ؛ لأن الرجوع لا يتوقف على موجبه شرعا ، ولو كان لا يجوز فأعتقوا ثلثه عتق كله قاله أصبغ ، ولو أوصى بثيابه فباع بعضها وأخلف ثيابا ، أو بمتاع بيته فتكسر بعضه فأخلفه ، أو بسلاحه فتكسر ، أو ذهب درعه فأخلفه ، أو بحائطه فيكسر منه النخلات ويغرس غيرها أو يزرع فيه زرعا فذلك كله للموصى له ؛ لأنه مراد الموصي قاله مالك ، بخلاف العبد يموت فيخلف غيره ؛ لأنه عينه ولو قال : رقيقه لفلان فأفاد رقيقا فهو للموصى له ، كما لو قال : إذا مت رقيقي أحرار عتق رقيقه عند الموت ، والوصية أيضا لا تعتبر إلا عند الموت لسلطنة الرجوع قبله ، ولو قال : رأس من رقيقي أو من إبلي فمات بعضهم وأخلف غيره فالوصية فيما أخلف ، ولو قال : ثوبي الخز لفلان فيذهب ويخلف غيره فلا شيء للموصى له تنزيلا للصفة منزلة التعيين ، وقال أشهب : إذا وصف ثيابه بصفتها وألوانها وأجناسها ورقيقه لا يكون الخلف للموصي إلا أن يوافق الأولى في الاسم والجنس والصفة نحو قوله : عبدي مبارك النوبي وقميصي المروزي ويكون الثاني مثله فهو للموصى له ، وفرق بين الوصية والحلف بالعتق : أن الوصية له الرجوع فيها .

                                                                                                                ولو حلف بعتق رقيقه إنما يلزمه في رقيقه يوم الحلف والوصية إنما تلزم يوم الموت ، وقاس مالك على الحلف . ولو قال في وصيته : عبدي حر وله عبد واحد فاشترى غيره ثم مات فالأحسن [ ص: 149 ] عتق نصفها بالسهم لتناول الاسم إياها .

                                                                                                                وقال محمد : لا يعتق إلا الأول لتعينه بالملك ، قال أشهب : لو قال : أحدهما حر فمات أحدهما واشترى آخر فهما حران ، قال محمد : لا يعتق الثاني فقط ؛ لأنه بقية ما تناوله اللفظ ، قال ابن القاسم : وطء الجارية ليس برجوع ؛ لأن الملك إنما ينتقل عند الموت ، فإذا وقف بعد الموت لتبين الحمل منه فقتلت ، قيمتها للميت ؛ لأنها قد تكون حاملا ، واستشكله ابن عبدوس ؛ لأن الأصل عدم الحمل ، قال صاحب المنتقى قال مالك : رهن العبد والجارية ليس برجوع ويفدى المرهون من رأس المال لبقاء الاسم والصورة على ملكه ، ولو أوصى بعبد بعينه ، ثم أمر ببيع كل عبد له : قال ابن القاسم : كما لو تصدق بكل عبد له على رجل أو أعتق كل عبد له . وقال ابن وهب : تبقى الوصية ؛ لأن اللفظ الخاص يقدم على العام ، ومذهب ابن القاسم على مذهب ( ح ) : أن العام المتأخر يرفع الخاص المتقدم ، قال البصري في تعليقه : إذا أوصى بعبد بعينه ثم أوصى به لآخر فهو بينهما ، وقاله الأئمة ، وليس رجوعا عن الأول ؛ لأن الوصية إنما تملك بالموت فكأنه ملكهم في وقت واحد .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية