الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال الطرطوشي : قال شيوخنا : الموصى به بعد الموت موقوف إن قبلها الموصى له تبينا دخولها في ملكه بالموت أو ردها ، تبينا أنها لم تزل على ملك الموصى ، ومن أصحابنا من قال : لم تزل على ملك الميت ، وقال ( ح ) : تدخل بالموت في ملك الورثة ، فإن قيل : لم أفسخ ملك الورثة وتدخل في ملكه من يوم القبول .

                                                                                                                قال صاحب المقدمات قيل : تجب بموت الموصي قبل القبول بعد الموت ، واختلف على هذا القول إذا مات الموصى له بعد الموت قبل القبول : قال مالك في المدونة : لورثته القبول ، وقيل : ليس لهم وتبطل وترجع ميراثا قاله الأبهري ، وقيل : تجب بنفس القول دون قبول ، فعلى هذا لو كانت وجبت للورثة ، وليس لهم ردها إلا على وجه الهبة لورثة الموصي إن قبلوها ، وقال ( ش ) : يملكها بنفس الموت . لنا : أنه عقد فيه إيجاب وقبول فلا يملك قبل القبول كالبيع ؛ ولأنه على ملك الميت إلى الموت ، والموت يمنع الملك ، وملك الوارث إنما أثبته الله تعالى فيما عدا الوصية فيكون موقوفا ، ولا عجب في اقتضاء القبول أثرا قبله ، كما لو قال : إن اخترتني فأنت طالق قبله بشهر فاختارت ، طلقت قبل ذلك بشهر ، ولو مات الموصي وارتد وارثه ولم يقبل الموصى له الوصية رجعت للمرتد ، فلو كان إنما يملك بالرد لم يملك هذا لردته ، فلما ملك هاهنا علم أن ملكه من يوم الموت ، [ ص: 153 ] وقد سلم الحنفية هذه الصورة أو نقول : مالك يشترط فيه الموت ويتوقف على شرط بعد الموت فليستند إلى وقت الموت كالميراث ، فإن التركة إذا كان فيها دين لا يحكم فيها بالملك للورثة عندهم ، فإذا أدى الغرم استند الملك إلى وقت الموت ، فكذلك إذا أوصى بعبد فلم يقبله الموصى له ، ولا يلزم إذا أوصى أن يباع منه ملكه بعد الموت ؛ لأن التمليك بالعقد لا يتوقف على الموت ولا يفرق بأن الميراث قهري والوصية تفتقر للقبول كالبيع والهبة ؛ لأنا نجيب بأن ملك البائع والواهب ثابت إلى قبل القبول ، وملك الميت زائل بالموت وليست بالوصية كالعقود ؛ لأن تأخير القبول عن الإيجاب يجوز فيها عندنا بنحو الشهرين بخلاف غيرها . احتج ( ش ) على دخولها بالموت من غير قبول بالقياس على الميراث ، بطريق الأولى ؛ لأن الثلث الموصى به مقدم على الورثة ؛ ولأن بقاءها على ملك الميت متعذر ؛ لأنه جماد على ملك الورثة ؛ لأن الوصية مقدمة عليهم فتعين الموصى له ، أو بالقياس على الوصية للفقراء والوقف .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن الوصية تبطل بالرد فله اختيار فيها كالبيع والهبة ، والميراث قهري فالشبه بالبيع أقوى .

                                                                                                                والجواب عن الثاني : منع الحصر أن يكون موقوفا ليس على ملك أحد .

                                                                                                                والجواب عن الثالث : الفرق قبول المحل لصدور القبول بخلاف الفقراء والوقف على المسجد .

                                                                                                                [ ص: 154 ] فرع

                                                                                                                قال ابن يونس : تجوز الوصية للصديق الملاطف بالثلث ، ويمتنع بأكثر إلا أن يجيزوه ، وإقراره له بالدين جائز إن ورثه ولد أو ولد ولد ، بخلاف الأبوين والزوجة والعصبة لقوة التهمة حينئذ ، وقال سحنون : لا تنفذ في الثلث ولا غيره ؛ لأنه لم يجعله وصية فتخرج من الثلث ، والتهمة تمنع كونه غير وصية ، وإن كان عليه دين يغترق ماله بطل إقراره للملاطف والوصية له والكفالة عنه ، قال ابن القاسم : لقوة الدين وتقديمه على الإرث ، وإن أقر لفلان عنده مائة دينار والمقر يرثه ولده كانت من رأس المال لعدم التهمة لفرط الشفقة على الولد أو كلالة بطل إقراره ولو صدقه فلان ، أو ورثه جاز إقراره ، أو كذبوه بطل إقراره لقوة التهمة بالتكذيب .

                                                                                                                قال شارح الجلاب : تجوز الوصية للملاطف بشرطين : عدم الدين لأجنبي ، وأن يرثه بنوه الذكور أو الذكور والإناث ، فمتى فقد أحدهما بطلت الوصية للتهمة ، وإذا ورثه إناث أو إناث وعصبة أو أبوه اختلف الجواب والسقوط . أبطل القاسم الإقرار إن ورثه أبواه أو العصبة ، واختلف إذا بطل مع العصبة : هل يجوز إذا حمل ذلك الثلث ؛ لأنه لو شاء جعله وصية ، أو يرد ؛ لأنه لم يرد به الثلث ؟ وحيث أبطلنا الإقرار إن صح صحة بينة ثم مات ثبت الإقرار ؛ لأنه لم يخرجه مخرج الوصية وإذا صح انتقل إلى رأس المال . قال الطرطوشي : الإقرار في مرض الموت للوارث بالدين يصح إن لم يتهم وإلا فلا ، كما لو ورثه ابنه وابن عم فأقر له صح أولها فلا للتهمة في الإزواء عنه . وقال ( ح ) : يمتنع إقراره في الموضعين ولا يصح ، وعند ( ش ) قولان : يصح في الموضعين ، يبطل فيهما نظرا إلى أن المرض هل يؤثر في الإقرار ويجعله كالإنشاء أم هو كحال الصحة ؟ ونحن نعتبر مع ذلك قوة التهمة قياسا على الشهادة ؛ ولأن المرض حالة [ ص: 155 ] تمنع التبرع فتؤثر في الإقرار كالجنون والصبا ، أو نقول : موجب المال لوارث لا يعلم إلا من جهته مع التهمة فيبطل كالهبة ، وإن كان هبة الزائد على الثلث لا يجوز للأجنبي ويصح الإقرار به ؛ فذلك لقوة التهمة هاهنا بخلاف الأجنبي ، احتجوا بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ) وشهادة الإنسان على نفسه : إقراره ، وإذا وجب عليه الاعتراف وجب العمل به علينا قياسا على الشهادة ؛ ولأنه يصح إقراره بالوارث فيصح له كالصحيح ؛ لأن الإقرار بالوارث يتضمن الإرث والنفقة وغيرهما من الماليات ، والإضرار بالورثة ، فالإقرار بمجرد المال أولى ؛ ولأن قبول الإقرار في المرض أولى من الصحة ؛ لأنها حال اضطرار للقدوم على الله تعالى فهي أحوج وأبعد عن الكذب ، أو نقول : صح إقراره للأجنبي فيصح للوارث كالصحيح عكسه المجنون والمحجور .

                                                                                                                والجواب عن الأول : لا نسلم إن ما وجب إظهاره وجب العمل به ؛ لأن الفاسق تجب عليه الشهادة بما يعلمه ولا يجب العمل بها ، وكذلك السفيه والعبد يقران بما عليهما .

                                                                                                                والجواب عن الثاني : أن الإقرار بالوارث لا يجوز مع التهمة فلو لم يكن له وارث وله عبد من بلد لم يدخله السيد فأقر أنه ولده لميله إليه امتنع ، ثم الفرق بأن الإقرار بالنسب المال فيه تبع ، ومفاسده عظيمة على تقدير كذبه من تزويج البنات [ ص: 156 ] والدخول عليهن وحجب كثير من الورثة ، وانتشار هذه المفاسد إلى قيام الساعة فتضعف التهمة فيه .

                                                                                                                والجواب عن الثالث : لا نسلم أنه يلزم من مزيد حاجته للإقرار قبولنا نحن له كما تقدم في الفاسق والمحجور .

                                                                                                                والجواب عن الرابع : نقول بموجبه حيث لا تهمة كما في حد القذف ثم الفرق : أن الأجنبي تجوز هبته له في الثلث بخلاف الوارث .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية