الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 236 ] قال ( وإحصان الرجم أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها وهما على صفة الإحصان ) فالعقل والبلوغ شرط لأهلية العقوبة إذ لا خطاب دونهما ، وما وراءهما يشترط لتكامل الجناية بواسطة تكامل النعمة إذ كفران النعمة يتغلظ عند تكثرها ، [ ص: 237 ] وهذه الأشياء من جلائل النعم . وقد شرع الرجم بالزنا عند استجماعها فيناط به . [ ص: 238 ] بخلاف الشرف والعلم ; لأن الشرع ما ورد باعتبارهما ونصب الشرع بالرأي متعذر ، ولأن الحرية ممكنة من النكاح الصحيح والنكاح الصحيح ممكن من الوطء الحلال ، والإصابة شبع بالحلال ، والإسلام يمكنه من نكاح المسلمة ويؤكد اعتقاد الحرمة فيكون الكل مزجرة عن الزنا . والجناية بعد توفر الزواجر أغلظ والشافعي يخالفنا في اشتراط الإسلام وكذا أبو يوسف في رواية لهما ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام { رجم يهوديين قد زنيا } قلنا : كان ذلك بحكم التوراة ثم نسخ ، يؤيده قوله عليه الصلاة والسلام { من أشرك بالله فليس بمحصن } . [ ص: 239 ] والمعتبر في الدخول إيلاج في القبل على وجه يوجب الغسل . [ ص: 240 ] وشرط صفة الإحصان فيهما عند الدخول ، حتى لو دخل بالمنكوحة الكافرة أو المملوكة أو المجنونة أو الصبية لا يكون محصنا ، وكذا إذا كان الزوج موصوفا بإحدى هذه الصفات وهي حرة مسلمة عاقلة بالغة ; لأن النعمة بذلك لا تتكامل إذ الطبع ينفر عن صحبة المجنونة ، وقلما يرغب في الصبية لقلة رغبتها فيه وفي المملوكة حذرا عن رق الولد ولا ائتلاف مع الاختلاف في الدين . وأبو يوسف رحمه الله يخالفهما في الكافرة ، والحجة عليه ما ذكرناه وقوله عليه الصلاة والسلام { لا تحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا الحر الأمة ولا الحرة العبد }

التالي السابق


( قوله وإحصان الرجم أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها وهما على صفة الإحصان ) قيد بإحصان الرجم ; لأن إحصان القذف غير هذا كما سيأتي . والإحصان في اللغة المنع ، قال تعالى { لتحصنكم من بأسكم } وأطلق في استعمال الشارح بمعنى الإسلام وبمعنى العقل وبمعنى الحرية منه { أن ينكح المحصنات } وبمعنى التزويج وبمعنى الإصابة في النكاح وبمعنى العفة ، يقال أحصنت : أي عفت وأحصنها زوجها .

قال في المبسوط : المتقدمون يقولون : إن شرائط الإحصان سبعة ، وعد ما ذكرنا ثم قال : فأما العقل والبلوغ فهما شرطا الأهلية للعقوبة ، وإلى

[ ص: 237 ] ذلك أشار المصنف بقوله فالعقل والبلوغ شرط لأهلية العقوبة ، والحرية شرط تكميل العقوبة لا شرط الإحصان على الخصوص ، وشرط الدخول ثبت بقوله صلى الله عليه وسلم { الثيب بالثيب } والثيابة لا تكون إلا بالدخول ا هـ . واختلف في اثنين من هذه : الإسلام وسيذكره المصنف وكون كل واحد من الزوجين مساويا للآخر في شرائط الإحصان وقت الإصابة بحكم النكاح فهو شرط عندنا خلافا للشافعي ، حتى لو تزوج الحر المسلم البالغ العاقل أمة أو صبية أو مجنونة أو كتابية ودخل بها لا يصير الزوج محصنا بهذا الدخول ، حتى لو زنى بعده لا يرجم عندنا ، وكذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة المسلمة من عبد أو مجنون أو صبي ودخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت . ولو تزوج مسلم ذمية فأسلمت بعدما دخل بها فقبل أن يدخل بها بعد الإسلام : أي أن يطأها إذا زنى لا يرجم ، وكذا لو أعتقت الأمة التي هي زوجة الحر البالغ العاقل المسلم بعدما دخل بها لا يرجم لو زنى ما لم يطأها بعد الإعتاق ، وعلى هذا لو بلغت بعدما دخل بها وهي صغيرة وكذا لو كانت تحته حرة مسلمة وهما محصنان فارتدا معا بطل إحصانهما ، فإذا أسلما لا يعود إحصانهما حتى يدخل بها بعد الإسلام . وقولنا يدخل بها في نكاح صحيح : يعني تكون الصحة قائمة حال الدخول ، حتى لو تزوج من علق طلاقها بتزوجها يكون النكاح صحيحا ، فلو دخل بها عقيبه لا يصير محصنا لوقوع الطلاق قبله .

واعلم أن الإضافة في قولنا شرائط الإحصان ينبغي أن تكون بيانية : أي الشرائط التي هي الإحصان ، وكذا شرط الإحصان . والحاصل أن الإحصان الذي هو شرط الرجم هو الأمور المذكورة ، فهي أجزاؤه ، وهو هيئة تكون باجتماعها فهي أجزاء علة ، وكل جزء علة ، فكل واحد حينئذ شرط وجوب الرجم ، والمجموع علة لوجود الشرط المسمى بالإحصان ، والشرط يثبت سمعا أو قياسا على ما اختاره فخر الإسلام وغيره . لا يقال : كما أن الحد لا يثبت قياسا فكذا شروطه ; لأنا نقول : بل يجب أن تثبت شروطه قياسا ; لأن عدم جواز نفس الحد إما لعدم المعقولية ، أو لأنه لا يثبت بما ازدادت فيه شبهة ، وإثبات الشرط احتيال للدرء لا لإيجابه بقي الشأن في تحقيقه ، وقد أثبت المصنف شرط اتفاقهما في صفة الإحصان مع غيره بقوله : ( وهذه الأشياء من جلائل النعم ) فإن من النعم كون كل من الزوجين مكافئا للآخر في صفاته الشريفة ثم قال : ( وقد شرع الرجم بالزنا عند استجماعها فيناط به ) أي باستجماعها ، وإذا نيط بكلها يلزم أن ينتفي الحد بانتفاء كل منها ، ومن جملتها كون كل مثل الآخر فيلزم اشتراطه لظهور أثر وجود الشبهة في درء الحد ، وعدم تماثلهما شبهة في تصور الصارف فيندرئ به ، وبيانه ما ذكر في بيان كونها من جلائل النعم الصارفة عن الزنا بكمال اندفاع حاجته إلى الوطء عندها ، فكونه بالغا ; لأن الصغير لا تكمل فيه رغبة الكبيرة وبالعكس ، وكذا المجنونة لا يرغب فيها بل هي محل نفرة الطباع ، وكذا ينفر المسلم عن صحبة من يفارقه في دينه منه ومنها ، وكذا يرى الحر انحطاطا بتزوج الرقيق

[ ص: 238 ] فلا تكمل الرغبة من الجانبين ، وإذا ظهر تكامل الصارف وفيه تكامل النعمة كانت الجناية عندها أفحش فناسب كون العقوبة أغلظ فشرعت لذلك وهي الرجم عند استجماعها فنيط به : أي بالاستجماع لها ( بخلاف الشرف والعلم ; لأن الشرع ما ورد باعتبارهما ونصب الشرع بالرأي ممتنع ) ووجه عدم اعتبارهما في تكميل العقوبة أنهما لا مدخل لهما في تكميل الصارف وإن كانتا من جلائل النعم ، وذلك هو المعتبر ، وأورد كيف يتصور كون الزوج كافرا وهي مسلمة كما يفيده ما ذكر في نفرة المسلم . وأجيب بأن يكونا كافرين فتسلم هي فيطأها قبل عرض القاضي الإسلام عليه وإبائه ، وما لم يفرق القاضي بينهما بإبائه هما زوجان ( قوله والشافعي يخالفنا في اشتراط الإسلام ) أي في الإحصان ( وكذا أبو يوسف في رواية ) وبه قال أحمد وقول مالك كقولنا : فلو زنى الذمي الثيب الحر ، يجلد عندنا ويرجم عندهم . لهم ما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر { أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا قد زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تجدون في التوراة في شأن الزنا ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، فقال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم ، فأتوا [ ص: 239 ] بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال عبد الله : ارفع يدك ، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، فقال : صدق يا محمد ، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما }

والذي وضع يده على آية الرجم عبد الله بن صوريا . وأجاب المصنف بأنه إنما رجمهما بحكم التوراة ، فإنه سألهم عن ذلك أولا ، وأن ذلك إنما كان عندما قدم عليه الصلاة والسلام المدينة ثم نزلت آية حد الزنا وليس فيها اشتراط الإسلام في الرجم ، ثم نزل حكم الإسلام بالرجم باشتراطه للإحصان ، وإن كان غير متلو ، وعلم ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم { من أشرك بالله فليس بمحصن } رواه إسحاق بن راهويه في مسنده : أخبرنا عبد العزيز بن محمد ، حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من أشرك بالله فليس بمحصن } فقال إسحاق رفعه مرة فقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقفه مرة . ومن طريقه رواه الدارقطني في سننه وقال : لم يرفعه غير إسحاق بن راهويه ، ويقال إنه رجع عن ذلك ، والصواب أنه موقوف . قال في العناية : ولفظ إسحاق كما تراه ليس فيه رجوع ، وإنما ذكر عن الراوي أنه مرة رفعه ومرة أخرجه مخرج الفتوى فلم يرفعه ، ولا شك أن مثله بعد صحة الطريق إليه محكوم برفعه على ما هو المختار في علم الحديث من أنه إذا تعارض الرفع والوقف حكم بالرفع ، وبعد ذلك إذا خرج من طرق فيها ضعف لم يضر .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم { لا يحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا الحر الأمة ولا الحرة العبد } فالله أعلم به ، ومعناه رواه الدارقطني وابن عدي من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن علي بن أبي طلحة عن كعب بن مالك { أنه أراد أن يتزوج بيهودية فقال له صلى الله عليه وسلم لا تتزوجها فإنها لا تحصنك } وضعف ابن أبي مريم ، وعلي بن أبي طلحة لم يدرك كعبا ، لكن رواه بقية بن الوليد عن عتبة بن تميم عن علي بن أبي طلحة عن كعب بن مالك وهو منقطع . وأنت تعلم أن الانقطاع عندنا داخل في الإرسال بعد عدالة الرواة ، وبقية قدمنا الكلام فيه أول هذا الشرح والله أعلم . وعلى كل حال هو شاهد للحديث الأول فيحتج به ، ولا معنى لفصل المصنف بين هذا الحديث والحديث الأول بالفروع التي ذكرها وهما معا في غرض واحد وهو الاحتجاج على أبي يوسف ومن معه بل كان الوجه جمعهما ثم يقول هنا لما ذكرنا .

واعلم أن الأسهل مما ادعى أن يقال : حين رجمهما كان الرجم ثبتت مشروعيته في الإسلام وهو الظاهر من قوله : صلى الله عليه وسلم { ما تجدون في التوراة في شأن الرجم } ثم الظاهر كون اشتراط الإسلام لم يكن ثابتا ، وإلا لم يرجمهم لانتساخ شريعتهم وإنما يحكم بما أنزل الله إليه ، وإنما سألهم عن الرجم في التوراة ليبكتهم بترك ما أنزل عليهم فحكم برجمهما بشرعه الموافق لشرعهم ، وإذا لزم كون الرجم كان ثابتا في شرعنا حال رجمهم بلا اشتراط الإسلام وقد ثبت الحديث المذكور المفيد لاشتراط الإسلام وليس تاريخ يعرف به تقدم اشتراط الإسلام على عدم اشتراطه أو تأخره ، فيكون رجمه اليهوديين وقوله المذكور متعارضين فيطلب الترجيح ، والقول يقدم على الفعل . وفيه وجه آخر وهو أن تقديم هذا القول يوجب درء الحد وتقديم ذلك الفعل يوجب الاحتياط في إيجاب الحد ، والأولى في الحدود ترجيح الدافع عند التعارض ، ولا يخفى أن كل مرجح فهو محكوم بتأخره اجتهادا ، ولقد طاح بهذا دفع بعض المعترضين ( قوله والمعتبر في الدخول ) المحقق للإحصان ( إيلاج في القبل على وجه يوجب الغسل ) وهو بغيبوبة الحشفة [ ص: 240 ] فقط أنزل أو لم ينزل .

وقوله حتى لو دخل بالمنكوحة الكافرة إلخ تقدم بيانه




الخدمات العلمية