الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ تذنيب في بيع العينة ] ويأتي متنا في الكفالة ، وبيع التلجئة ويأتي متنا في الإقرار ، وهو أن يظهرا عقدا وهما لا يريدانه يلجأ إليه لخوف عدو وهو ليس ببيع في الحقيقة بل كالهزل كما بسطته في آخر شرحي على المنار [ ص: 274 ] ونقلت عن التلويح أن الأقسام ثمانية وسبعون ، وعقد له قاضي خان فصلا آخر الإكراه ، ملخصه أنه بيع منعقد غير لازم كالبيع بالخيار ، وجعله الباقاني فاسدا - [ ص: 275 ] ولو ادعى أحدهما بيع التلجئة وأنكر الآخر فالقول لمدعي الجد بيمينه ، ولو برهن أحدهما قبل ، ولو برهنا فالتلجئة ، ولو تبايعا في العلانية ، إن اعترفا ببنائه على التلجئة فالبيع باطل لاتفاقهما أنهما هزلا به وإلا فلازم ، ولو لم تحضرهما نية فباطل على الظاهر منية . قلت : ومفاده أنهما لو تواضعا على الوفاء قبل العقد ثم عقدا خاليا عن شرط الوفاء فالعقد جائز ولا عبرة للمواضعة

التالي السابق


( قوله : تذنيب ) شبه هذه المسائل التي ذكرها في آخر كتاب البيوع بذنب الحيوان المتصل بعجزه وجعل ذكرها في آخره بمنزلة تعليق الذنب في عجز الحيوان وفيه استعارة لا تخفى . مطلب في بيع العينة

( قوله : في بيع العينة ) اختلف المشايخ في تفسير العينة التي ورد النهي عنها . قال بعضهم : تفسيرها أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر ويستقرضه عشرة دراهم ولا يرغب المقرض في الإقراض طمعا في فضل لا يناله بالقرض فيقول لا أقرضك ، ولكن أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشر درهما وقيمته في السوق عشرة ليبيعه في السوق بعشرة فيرضى به المستقرض فيبيعه كذلك ، فيحصل لرب الثوب درهما وللمشتري قرض عشرة . وقال بعضهم : هي أن يدخلا بينهما ثالثا فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثني عشر درهما ويسلمه إليه ثم يبيعه المستقرض من الثالث بعشرة ويسلمه إليه ثم يبيعه الثالث من صاحبه وهو المقرض بعشرة ويسلمه إليه ، ويأخذ منه العشرة ويدفعها للمستقرض فيحصل للمستقرض عشرة ولصاحب الثوب عليه اثنا عشر درهما ، كذا في المحيط ، وعن أبي يوسف : العينة جائزة مأجور من عمل بها ، كذا في مختار الفتاوى هندية . وقال محمد : هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم اخترعه أكلة الربا . وقال عليه الصلاة والسلام { إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم وظهر عليكم عدوكم } قال في الفتح : ولا كراهة فيه إلا خلاف الأولى لما فيه من الإعراض عن مبرة القرض ا هـ ط ملخصا .

( قوله : ويأتي متنا في الكفالة ) وإنما نبه على ذكره هنا ; لأنه من أقسام البيوعات ، ونبه على أن بيانه سيأتي في الكفالة .

مطلب في بيع التلجئة

( قوله : وبيع التلجئة ) هي ما ألجئ إليه الإنسان بغير اختياره ، وذلك أن يخاف الرجل السلطان فيقول لآخر إني أظهر أني بعت داري منك ، وليس ببيع في الحقيقة وإنما هو تلجئة ويشهد على ذلك مغرب . ( قوله : بل كالهزل ) أي في حق الأحكام والهزل كما في المنار هو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له ولا ما يصلح اللفظ له استعارة ، وهو ضد الجد : وهو أن يراد ما وضع له أو ما صلح أنه ينافي اختيار الحكم والرضا به ، ولا ينافي الرضا بالمباشرة واختيار المباشرة فصار بمعنى خيار الشرط في البيع ، وشرطه أن يكون صريحا مشروطا باللسان : [ ص: 274 ] أي بأن يقول إني أبيع هازلا إلا أنه يشترط ذكره في العقد ، بخلاف خيار الشرط ا هـ ، فالهزل أعم من التلجئة ; لأنه يجوز أن لا يكون مضطرا إليه وأن يكون سابقا ومقارنا ، والتلجئة إنما تكون عن اضطرار ولا تكون مقارنة كذا قيل ، والأظهر أنهما سواء في الاصطلاح كما قال فخر الإسلام : التلجئة هي الهزل ، وكذا في جامع الأسرار على المنار للكاكي ، ثم اعلم أن التلجئة تكون في الإنشاء وفي الإخبار كالإقرار ، وفي الاعتقاد كالردة والأول قسمان : ما يحتمل الفسخ وما لا كالطلاق والعتاق ، وقد بسط ذلك كله في المنار ، والغرض الآن بيان الإنشاء المحتمل للفسخ كالبيع وهو ثلاثة أقسام ; لأنه إما أن يكون الهزل في أصل العقد ، أو في قدر الثمن ، أو جنسه .

قال في المنار فإن تواضعا على الهزل بأصل البيع واتفقا على البناء : أي بناء العقد على المواضعة يفسد البيع لعدم الرضا بالحكم فصار كالبيع بشرط الخيار المؤبد أي فلا يملك بالقبض وإن اتفقا على الإعراض : أي بأن قالا بعد البيع قد أعرضنا وقت البيع عن الهزل إلى الجد فالبيع صحيح والهزل باطل ، وإن اتفقا على أنه لم يحضرهما شيء عند البيع من البناء والإعراض أو اختلفا في البناء على المواضعة والإعراض عنها فالعقد صحيح عنده في الحالين خلافا لهما ، فجعل صحة الإيجاب أولى ; لأنها الأصل ، وهما اعتبرا المواضعة إلا أن يوجد ما يناقضها : أي كما إذا اتفقا على البناء وإن كان ذلك أي المواضعة في القدر : أي بأن اتفقا على الجد في العقد بألف لكنهما تواضعا على البيع بألفين على أن أحدهما هزل ، فإن اتفقا على الإعراض عن المواضعة كان الثمن ألفين لبطلان الهزل بإعراضهما ، وإن اتفقا على أنه لم يحضرهما شيء من البناء والمواضعة أو اختلفا فالهزل باطل والتسمية للألفين صحيحة عنده ، وعندهما العمل بالمواضعة واجب والألف الذي هزلا به باطل ، لما مر أن الأصل عنده الجد ، وعندهما المواضعة ; وإن اتفقا على البناء على المواضعة فالثمن ألفان عنده ، وإن كان ذلك الهزل في الجنس : أي جنس الثمن بأن تواضعا على مائة دينار وإنما الثمن مائة درهم أو بالعكس فالبيع جائز بالمسمى في العقد على كل حال بالاتفاق : أي سواء اتفقا على البناء أو على الإعراض ، أو على عدم حضور شيء منهما ، أو اختلفا فيهما ا هـ ، موضحا من شرح الشارح عليه . ومن حواشينا على شرحه المسماة بنسمات الأسحار على إفاضة الأنوار ، وتمام بيان ذلك مبسوط فيها .

( قوله : أن الأقسام ثمانية وسبعون ) قال في التلويح : لأن المتعاقدين إما أن يتفقا أو يختلفا ، فإن اتفقا فالاتفاق إما على إعراضها ، وإما على بنائهما ، وإما على ذهولهما ، وإما على بناء أحدهما وإعراض الآخر أو ذهوله ، وإما على إعراض أحدهما وذهول الآخر ، فصور الاتفاق ستة ; وإن اختلفا فدعوى أحد المتعاقدين تكون ، إما إعراضهما ، وإما بناؤهما ، وإما ذهولهما ، وإما بناؤه مع إعراض الآخر أو ذهوله ، وإما إعراضه مع بناء الآخر أو ذهوله ، وإما ذهوله مع بناء الآخر أو إعراضه تصير تسعة ، وعلى كل تقدير من التقادير التسعة يكون اختلاف الخصم بأن يدعي إحدى الصور الثمانية الباقية فتصير أقسام الاختلاف اثنين وسبعين من ضرب التسعة في الثمانية ا هـ . وهي مع الست صور الاتفاق ثمانية وسبعون . قلت : وقد أوصلتها في حاشيتي على شرح المنار للشارح إلى سبعمائة وثمانين ، ولم أر من أوصلها إلى ذلك فراجعها هناك وامنحني بدعاك .

( قوله : ملخصه أنه بيع منعقد غير لازم ) لم يصرح في الخانية بذلك ، وإنما ذكر أن التلجئة على ثلاثة أوجه كما قدمناه . ثم قال في الأول : وهو ما إذا كانت في نفس العقد لو تصادقا على المواضعة [ ص: 275 ] فالبيع باطل . وعنه في رواية أنه جائز . ولو تصادقا أن البيع كان تلجئة ثم أجازاه صحت الإجازة ، كما لو تبايعا هزلا ثم جعلاه جدا يصير جدا ، وإن أجاز أحدهما لا يصح ; وفي بيع التلجئة إذا قبض المشتري العبد المشترى وأعتقه لا يجوز إعتاقه ، وليس هذا كبيع المكره ; لأن بيع التلجئة هزل ، وذكر في الأصل أن بيع الهازل باطل ، أما بيع المكره ففاسد ا هـ ملخصا ، ولعل الشارح فهم أنه منعقد غير لازم من قوله ثم أجازاه صحت الإجازة ، لكن ينافيه التصريح بأنه باطل ، فإن أريد بالباطل الفاسد نافاه التصريح بأنه إذا قبض العبد لا يصح إعتاقه : أي لأنه لا يملك بالقبض كما مر مع أن الفاسد يملك به . وقد يقال إن صحة الإجازة مبنية على أنها تكون بيعا جديدا فلا تنافي كونه باطلا ، وحينئذ فلا يصح قوله إنه بيع منعقد غير لازم ، إلا أن يجاب بأن قوله باطل : بمعنى أنه قابل للبطلان عند عدم الإجازة ، والأحسن ما أجبنا به في أول البيوع من أنه فاسد كما صرح به الأصوليون ; لأن الباطل ما ليس منعقدا أصلا وهذا منعقد بأصله ; لأنه مبادلة مال بمال دون وصفه لعدم الرضا بحكمه كالبيع بشرط الخيار أبدا ولذا لم يملك بالقبض ، وليس كل فاسد يملك بالقبض ، كما لو اشترى الأب شيئا من ماله لطفله أو باعه له كذلك فاسدا لا يملكه بالقبض حتى يستعمله كما في المحيط وقدمنا هناك تمام الكلام على ذلك ، والله تعالى هو الموفق للصواب .

( قوله : ولو ادعى أحدهما إلخ ) هذا أيضا مذكور في الخانية سوى قوله ولو لم تحضرهما نية إلخ . ( قوله : فالقول لمدعي الجد ) لأنه الأصل . ( قوله : ولو برهن أحدهما قبل ) الأظهر قول الخانية : ولو برهن مدعي التلجئة قبل ; لأن مدعي الجد لا يحتاج إلى برهان كما علمت ; لأن البرهان يثبت خلاف الظاهر . ( قوله : فالتلجئة ) أي لأنها خلاف الظاهر . ( قوله : فالبيع باطل ) أي فاسد كما علمت ، فإن نقضه أحدهما انتقض لا إن أجازه : أي بل يتوقف على إجازتهما جميعا ; لأنه كخيار الشرط لهما وإن أجازه جاز بقيد كونها في ثلاثة أيام عنده ومطلقا عندهما ، كذا في التحرير . ( قوله : وإلا ) بأن اتفقا بعد البيع على أنهما أعرضا وقته عن المواضعة . ( قوله : ولو لم تحضرهما نية فباطل إلخ ) مثله في المؤيدية عن الغنية حيث قال : وإن تصادقا على أنهما لم تحضرهما نية عند العقد ففي ظاهر الجواب البيع باطل . وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن البيع صحيح ا هـ . والأول قولهما كما مر عن المنار ، ورجحه أيضا المحقق ابن الهمام في التحرير ، وأقره تلميذه ابن أمير حاج في شرحه وجعل المحقق مثله ما إذا اختلفا في الإعراض والبناء : أي بأن قال أحدهما بنينا العقد على المواضعة ، وقال الآخر على الجد فلا يصح أيضا عندهما . ثم قال : ولو قال أحدهما أعرضت والآخر لم يحضرني شيء أو بنى أحدهما وقال الآخر لم يحضرني شيء فعلى أصله عدم الحضور كالإعراض : أي فيصح ، وعلى أصلهما كالبناء أي فلا يصح . ( قوله : ومفاده إلخ ) أي مفاده قوله وإلا فلازم ، لكن إنما يتم هذا المفاد إذا قصدا إخلاء العقد عن شرط الوفاء . أما لو لم تحضرهما نية فقد علمت أنه باطل ، وهذا المفاد صرح به في جامع الفصولين حيث قال : لو شرطا التلجئة في البيع فسد البيع ، ولو تواضعا قبل البيع ثم تبايعا بلا ذكر شرط فيه جاز البيع عند أبي حنيفة إلا إذا تصادقا أنهما تبايعا على تلك المواضعة ، وكذا لو تواضعا الوفاء قبل البيع ثم عقدا بلا شرط الوفاء فالعقد جائز ، [ ص: 276 ] ولا عبرة للمواضعة السابقة ا هـ وفي البزازية : وإن شرطا الوفاء ثم عقدا مطلقا إن لم يقرا بالبناء على الأول فالعقد جائز ، ولا عبرة بالسابق كما في التلجئة عند الإمام ، وقوله فالعقد جائز أي بناء على قول أبي حنيفة المذكور ، ولا يخفى أن الشارح مشى على خلافه ، وعليه فالمناسب أن يقول فالعقد غير جائز .




الخدمات العلمية