الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال علماء السير: وكان بين كسرى أنوشروان وبين يخطيانوس ملك الروم هدنة وموادعة ، فوقع بين رجل كان ملكه ملك الروم يقال له: خالد بن جبلة وبين رجل كان ملكه كسرى يقال له: المنذر بن النعمان نائرة ، فأغار خالد على حيز المنذر ، [ ص: 135 ] فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة ، وغنم أموالا ، فشكا ذلك المنذر إلى كسرى ، فكتب كسرى إلى ملك الروم يذكر ما بينهما من العهد ، ويعلمه ما لقي عامله المنذر ، ويسأله أن يأخذ خالد بأن يرد على المنذر ما غنم من حيزه ، ويدفع إليه دية من قتل ، وأن لا يستخف بما كتب إليه ، فيكون في ذلك انتقاض ما بينهما من العهد .

ثم واتر الكتب بذلك فلم يحفل بها ملك الروم ، فغزاه كسرى في بضعة وتسعين ألف مقاتل ، فأخذ مدينة دارا ، ومدينة الرهاء ، ومدينة منبج ، ومدينة قنسرين ، ومدينة حلب ، ومدينة أنطاكية - وكانت أفضل مدينة بالشام - ومدينة فامية ، [ ومدينة ] حمص ، ومدنا كثيرة ، واحتوى على ما كان منها ، وسبى أهل مدينة أنطاكية ، ونقلهم إلى أرض السواد ، وكان ملك الروم يؤدي إليه الخراج ، وكان قباذ قد أمر في آخر ملكه بمسح الأرض ، سهلها ووعرها ، ليصح الخراج عليها ، فمسحت ، غير أن قباذ هلك قبل أن يستحكم أمر المساحة .

فلما ملك كسرى أمر باستتمامها وإحصاء النخل والزيتون ، ثم استشار الناس وقال: نريد أن نجمع من ذلك في بيوت أموالنا ما لو أتانا عن ثغر أو طرف فتق ، كانت الأموال عندنا معدة . فاجتمع رأيهم على وضع الخراج على ما يعصم الناس والبهائم ، وهو الحنطة والشعير والأرز والكرم والرطاب والنخل والزيتون ، فوضعوا عن كل جريب أرض رطاب سبعة دراهم ، وعلى كل أربع نخلات فارسي درهما ، وعلى كل ست نخلات دقل مثل ذلك ، وعلى كل ستة أصول زيتون مثل ذلك ، ولم يضعوا إلا على النخل الذي تجمعه الحديقة دون الشاذ .

وألزموا الناس الجزية ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتلة والهرابذة والكتاب ، ومن كان في خدمة الملك ، وصيروها على طبقات: اثني عشر درهما ، وثمانية ، وستة ، وأربعة ، على قدر إكثار الرجل وإقلاله ، ولم يلزم الجزية من كان له من السن دون العشرين وفوق الخمسين ، واقتدى بجمهور هذه الأشياء عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

قالوا: وكان كسرى ولى رجلا من الكتاب - ذا كفاية ، يقال له: بابك بن البيروان - [ ص: 136 ] ديوان المقاتلة ، فاستعرض العسكر ولم ير كسرى فيهم . فقال: انصرفوا ، فاستعرضهم في اليوم التالي فلم ير كسرى فيهم ، فقال: انصرفوا ، وأمر مناديهم ، فنادوا في اليوم الثالث: لا يتخلفن أحد ، ولا من أكرم بتاج وسرير . فبلغ ذلك كسرى ، فوضع تاجه ، وتسلح بسلاح المقاتلة ، ثم أتى بابك ليعرض عليه ، وكان الفارس يؤخذ بالسلاح التام ، فجاء كسرى بسلاح يعوزه شيء يسير ، فقال: أيها الملك ، إنك واقف مقام المعدلة التي لا محاباة فيها ، فهلم كلما يلزمك من الأسلحة . ففعل ، فلما قام بابك إلى كسرى قال: إن غلظتي في الأمر الذي أغلظت فيه اليوم عليك ، إنما كان لينفذ أمري الذي وضعتني له .

فقال كسرى : ما غلظ علينا أمر أريد به تدبر صلاح رعيتنا . قالوا: ولم يكن ببلاد الفرس بنات آوى فتساقط إليها من بلاد الترك في زمان كسرى ، فشق على كسرى ، وسأل موبدان عن ذلك ، فقال: متى تغير عدل بجور تساقط إلى أرباب ذلك ما يكرهون . فأمر كسرى عماله أن لا يتعدوا العدل .

التالي السابق


الخدمات العلمية