الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال مؤلف الكتاب: وبهرام جور هذا ملك بعد أبيه يزدجرد ، ويقال له: بهرام جور بن يزدجرد الخشن بن بهرام كرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف .

ولما ولد بهرام هذا أمر أبوه المنجمين أن ينظروا في النجوم ليعلموا ما يؤول إليه أمره ، فنظروا ، فأمروا أن تجعل تربيته وحضانته إلى العرب ، [ فدعا بالمنذر بن النعمان ، فاستحضنه بهرام وشرفه وملكه على العرب ] ، وأمر له بصلة وكسوة ، وأمره أن يسير بهرام إلى بلاد العرب ، فسار به المنذر إلى محلته ، واختار لإرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام ضخام ، وأذهان ذكية ، وآداب رضية ، من بنات الأشراف ، منهن امرأتان من بنات العجم ، وأمر لهن بما يصلحهن ، فتداولن إرضاعه ثلاث سنين ، وفطم في السنة الرابعة ، حتى إذا أتت عليه خمس سنين قال للمنذر : أحضرني مؤدبين ذوي علم ليعلموني الكتابة والرمي والفقه . فقال له المنذر : إنك بعد صغير السن ، ولم يأن لك .

فقال: أنا لعمري صغير ، ولكن عقلي عقل محتنك ، وأولى ما كلف به الملوك صالح العلم ، فعجل علي بما سألتك من المؤدبين .

فوجه المنذر ساعة سمع هذا إلى باب الملك من أتاه برهط من فقهاء الفرس ، ومعلمي الرمي والكتابة ، وجمع له حكماء ومحدثين من العرب ، فألزمهم بهرام ، ووقت [ ص: 94 ] لكل منهم وقتا يأتيه فيه ، فتفرغ لهم بهرام ، فبلغ اثنتي عشرة سنة ، وقد استفاد كل ما أفيد وحفظه وفاق [ معلميه ] حتى اعترفوا له بفضله عليهم ، فأثاب بهرام المنذر ومعلميه ، وأمرهم بالانصراف عنه ، وأمر معلمي الرمي والفروسية بالإقامة عنده ، ليأخذ عنهم ما ينبغي له إحكامه .

وأمر بهرام النعمان أن يحضروا خيولهم ، فأحضروها وأخروها فسبق فرس أشقر للمنذر تلك الخيل جميعا ، فقربه المنذر إلى بهرام ، وقال: يبارك الله لك فيه . فأمر بقبضه ، وركبه يوما إلى الصيد ، فبصر بعانة ، فرمى وقصد نحوها ، فإذا بأسد [ قد شد ] على عير كان فيها ، فتناول ظهره ، فرماه بهرام رمية نفذت من بطنه وبطن العير وسرته حتى أفضت إلى الأرض ، فأمر بهرام فصور ما جرى له مع الأسد والعير في بعض مجالسه . ثم رحل إلى أبيه ، وكان أبوه لا يحفل بولد ، فاتخذ بهرام للخدمة ، فلقي [ بهرام ] من ذلك عناء .

ثم إن يزدجرد وفد عليه أخ لقيصر ، يقال له: ثياذوس ، في طلب الصلح والهدنة ، فسأله بهرام أن يسأل يزدجرد أباه أن يأذن له في الانصراف إلى المنذر ، فأذن له ، فانصرف إلى بلاد العرب ، وأقبل على النعم واللذة والتلذذ ، فهلك يزدجرد وبهرام غائب .

فتعاقد ناس من العظماء وأرباب البيوتات ألا يملكوا أحدا من ذرية يزدجرد لسوء سيرته ، وقالوا: إن يزدجرد لم يخلف ولدا يحتمل الملك غير بهرام ، ولم يل بهرام ولاية قط يبلى بها خبره ، ويعرف بها [ حاله ] ، ولم يتأدب بأدب العجم ، وإنما أدبه [ ص: 95 ] أدب العرب ، وخلقه كخلقهم لنشأته بينهم .

واجتمعت كلمتهم وكلمة العامة على صرف الملك عن بهرام إلى رجل من عترة أردشير بن بابك يقال له: كسرى ، فلم يعتموا حتى ملكوه ، فانتهى إلى بهرام هلاك أبيه يزدجرد وتمليكهم كسرى وهو ببادية العرب فدعا بالمنذر والنعمان ابنه وناس من علية العرب ، وقال لهم: لا أحسبكم تجحدون خصيصي والدي ، [ كان ] أتاكم معشر العرب بإحسانه وإنعامه مع فظاظته وشدته على الفرس ، وأخبرهم بالذي أتاه من نعي أبيه ، وتمليك الفرس من ملكوا .

فقال المنذر : لا يهولنك ذلك حتى ألطف الحيلة فيه . وإن المنذر جهز عشرة آلاف رجل من فرسان العرب ، ووجههم مع ابنه إلى مدينتين للملك ، وأمره أن يعسكر قريبا منهما ، ويدمن إرسال طلائعه إليهما ، فإن تحرك أحد لقتاله قاتله وأغار على ما والاهما ، وأسر وسبى ، ونهى عن سفك دم .

فسار النعمان حتى نزل قريبا من المدينتين ، ووجه طلائعه إليهما ، واستعظم قتال الفرس ، وإن من بالباب من العظماء وأهل البيوتات أرسلوا جواني صاحب رسائل يزدجرد إلى المنذر ، وكتبوا إليه يعلمونه أمر النعمان ، فلما ورد جواني على المنذر وقرأ الكتاب الذي كتب إليه ، قال له: الق الملك بهرام ، ووجه معه من يوصله إليه . فدخل جواني على بهرام فراعه ما رأى من وسامته وبهائه ، وأغفل السجود دهشا ، فعرف بهرام أنه إنما ترك السجود لما راعه من روائه ، فكلمه بهرام ، ووعده من نفسه أحسن الوعد ، ورده إلى المنذر ، وأرسل إليه أن يجيب في الذي كتب ، فقال المنذر لجواني : قد تدبرت الكتاب الذي أتيتني به ، وإنما وجه النعمان إلى ناحيتكم الملك بهرام حيث ملكه الله بعد أبيه ، وخوله إياكم .

فلما سمع جواني مقالة المنذر ، وتذكر ما عاين من رواء بهرام وهيبته عند نفسه ، وأن جميع من شاور في صرف الملك عن بهرام مخصوم محجوج ، قال للمنذر : إني لست محيرا جوابا ، ولكن سر إن رأيت إلى محلة الملوك فيجتمع إليك من بها من [ ص: 96 ] العظماء وأهل البيوتات ، وتشاوروا في ذلك . وأت فيه ما يجمل ، فإنهم لن يخالفوك في شيء مما تشير به .

فرد المنذر جواني إلى من أرسله إليه ، واستعد وسار بعد فصول جواني من عنده بيوم ببهرام في ثلاثين ألف رجل من فرسان العرب وذوي البأس والنجدة منهم إلى مدينتي الملك ، حتى إذا وردهما ، أمر فجمع الناس ، وجلس بهرام على منبر من ذهب مكلل بجوهر ، وجلس المنذر عن يمينه ، وتكلم عظماء الفرس وأهل البيوتات ، وفرشوا للمنذر بكلامهم فظاظة يزدجرد أبي بهرام كانت ، وسوء سيرته ، وأنه أخرب بسوء رأيه الأرض ، وأكثر القتل ظلما ، حتى قتل الناس في البلاد التي كان يملكها ، وأمورا غير ذلك فظيعة . وذكروا أنهم تعاقدوا وتواثقوا على صرف الملك عن ولد يزدجرد لذلك ، وسألوا المنذر ألا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه .

فوعى المنذر ما بثوا من ذلك ، وقال لبهرام : أنت أولى بإجابة القوم مني . فقال بهرام : وأنا كنت أكره فعله ، وأرجو أن أملك مكانه فأصلح ما أفسد ، فإن أتت لملكي سنة ولم أف لكم تبرأت من الملك طائعا ، وقد أشهدت الله بذلك علي وملائكته موبذان موبذ ، وأنا مع هذا قد رضيت بتمليككم من يتناول التاج والزينة من بين أسدين ضاريين فهو الملك .

فأجابوا إلى ذلك وقالوا: يترك التاج والزينة بين أسدين ، وتنازع أنت وكسرى ، فأيكما يتناولهما من بينهما سلمنا له الملك .

فرضي بهرام بمقالتهم ، فأتى بالتاج والزينة موبذان موبذ ، الموكل كان يعقد التاج على رأس كل ملك فوضعهما في ناحية ، وجاءوا بأسدين ضاريين مشبلين ، فوقف أحدهما على جانب الموضع الذي وضع فيه التاج والزينة ، والآخر بحذائه ، فأرخى وثاقهما ، ثم قال [ بهرام لكسرى : دونك التاج والزينة . فقال ] كسرى : أنت أولى [ ص: 97 ] بتناولهما مني ، لأنك تطلب الملك بوراثة ، وأنا فيه مغتصب . فلم يكره بهرام قوله بثقته وبطشه ، وتوجه نحو التاج والزينة ، فقال موبذان موبذ: هذا عن غير رأي أحد ، ونحن برآء إلى الله عز وجل من إتلافك نفسك . فقال: أنتم من ذلك برآء . ومشى نحوهما فبدر إليه أحدهما ، فوثب وثبة فعلا ظهره ، وعصر جنبيه بفخذيه عصرا أثخنه ، وجعل يضرب رأسه بشيء في يده ، ثم شد الأسد الآخر عليه فقبض على أذنيه ، وعركهما بكلتا يديه ، ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان راكبه حتى دمغهما وتناول التاج والزينة ، فأذعن الكل له ، وقالوا: رضينا به ملكا . وكان ابن عشرين سنة .

ثم جلس للناس بعد ذلك سبعة أيام متوالية يعدهم بالخير ، ويأمرهم بتقوى الله عز وجل وبطاعته . ثم صار يؤثر اللهو ، فكثرت ملامة رعيته له ، وطمع من حوله من الملوك في استباحة بلاده ، وكان أول من سبق بالمكاثرة له: خاقان ملك الترك ، فإنه غزاه في مائتين وخمسين ألفا من الترك ، فلما بلغ الفرس إقبال خاقان هالهم ذلك ، فدخل على بهرام جماعة من الرؤساء فقالوا: إن فيما قد أزف ما يشغل عن اللهو ، فلم يقبل عليهم ولم يترك اللهو .

وإنه تجهز فسار إلى أذربيجان لينسك في بيت نارها ، ويتوجه منها إلى أرمينية ويطلب الصيد في آجامها ويلهو في سبعة رهط من العظماء وأهل البيوتات وثلاثمائة رجل من رابطته من ذوي بأس ونجدة ، واستخلف أخا له يسمى: نرسي على ما كان يدبر من أمر ملكه ، فلم يشك الناس حين بلغهم مسير بهرام فيمن [ ص: 98 ] سار ، واستخلافه أخاه أن ذلك هرب من عدوه ، واستلام لملكه ، وتآمروا في إنفاذ وفد إلى خاقان والإقرار له بالخراج ، مخافة أن يستبيح بلادهم ، ويصطلم مقاتلتهم ، فبلغ ذلك خاقان ، فآمن ناحيتهم ، فأتى بهرام عين كان وجهه ليأتيه بخبر خاقان ، فأخبره بأمر خاقان وعزمه ، فسار إليه بهرام في العدة الذين كانوا معه ، فبيته ، وقتل خاقان بيده ، وأفشى القتل في جنده ، وانهزم من كان سلم منهم متوجها إلى بلاده ، وخلفوا عسكرهم وذراريهم ، فأمعن بهرام في طلبهم يقتلهم ويحوي ما غنم منهم ويسبي ذراريهم ، وانصرف وجنده سالمين .

وظفر بهرام بتاج خاقان وإكليله ، وغلب على بلاده من بلاد الترك ، واستعمل على ما غلب عليه مرزبانا حباه بسرير من فضة ، وأتاه أناس من أهل البلاد المتاخمة لما غلب عليه من بلاد الترك خاضعين له بالطاعة ، وسألوه أن يعلمهم حد ما بينه وبينهم فلا يتعدوه ، فحد لهم حدا ، فبنى لهم منارة ، ووجه قائدا من قواده إلى ما وراء النهر منهم ، فقاتلهم حتى أقروا لبهرام بالعبودية وأداء الجزية .

وأن بهرام انصرف إلى أذربيجان ، راجعا إلى محلته ، وأمر بما كان في إكليل خاقان من ياقوت أحمر وسائر الجواهر فعلق على بيت نار أذربيجان ، ثم سار وورد مدينة طيسبون ، فنزل دار المملكة بها ، ثم كتب إلى جنده وعماله بقتله خاقان ، وما كان من أمره . ثم ولى أخاه نرسي خراسان ، وأمره أن ينزل بلخ .

وذكر أن بهرام لما انصرف من غزوه الترك ، خطب أهل مملكته أياما [ ص: 99 ] متوالية ، فحثهم على لزوم الطاعة ، وأعلمهم [ أن ] بنيته التوسعة عليهم ، وإيصال الخير إليهم ، وأنهم إن زالوا عن الاستقامة نالهم من غلظته أكثر مما كان نالهم من أبيه ، وأن أباه كان افتتح أمرهم باللين والمعدلة ، فجحدوا ذلك [ أو من جحده منهم ] فأصاره ذلك إلى الغلظة ، ثم رفع عن الناس الخراج ثلاث سنين شكرا لما لقي من النصر على الأعداء ، وقسم في الفقراء والمساكين مالا عظيما ، وفي أهل البيوتات وأصحاب الأحساب عشرين ألف [ ألف ] درهم .

وقد كان بهرام حين أفضى له الملك أمر أن يرفع عن أهل الخراج البقايا التي بقيت عليهم من الخراج ، فأعلم أن ذلك سبعون ألف ألف درهم ، فأمر بتركها وترك ثلث خراج السنة التي ولي فيها .

ودخل بهرام أرض الهند [ متنكرا ] فمكث فيها حينا ، فبلغه أن في ناحية من أرضهم فيلا قد قطع السبل ، وقتل ناسا كثيرا ، فسأل عن مكانه فدل عليه . ليقتله ، فانتهى ذلك إلى ملكهم ، فدعا به ، وأرسل معه رسولا يخبره بخبره ، فلما انتهىبهرام والرسول إلى الأجمة التي فيها الفيل ، رقي الرسول إلى شجرة لينظر إلى صنيع بهرام بالفيل ، [ فصاح بهرام بالفيل ] فخرج مزبدا ، فرماه رمية وقعت بين عينيه ، ووقذه [ ص: 100 ] بالنشاب ، ثم وثب عليه فأخذ بمشفره ، فاجتذبه جذبة حتى جثا الفيل ، ثم احتز رأسه وذهب به . فأخبر الرسول الملك بما جرى ، فحباه مالا عظيما ، وسأل عن أمره فقال بهرام : أنا رجل من عظماء الفرس ، سخط علي ملك فارس فهربت منه إلى جوارك .

ثم إن عدوا لذلك الملك خرج عليه ، فعزم الملك على الخضوع [ له ] ، فنهاه بهرام ، وخرج فقاتله ، فانصرف محبورا ، فأنكحه الملك ابنته ، ونحله الديبل ومكران وما يليها من أرض السند ، وأشهد له شهودا بذلك ، فأمر بتلك البلاد فضمت إلى أرض العجم ، فانصرف بهرام مسرورا .

ومضى بهرام إلى بلاد السودان من ناحية اليمن ، فأوقع بهم ، فقتل منهم مقتلة عظيمة ، وسبى منهم خلقا ، ثم انصرف إلى مملكته .

التالي السابق


الخدمات العلمية