المطلب الثاني: ضبط منهج التعامل مع التراث الفقهي
لقد سعى الشوكاني أثناء ضبطه لمقومات البحث الفقهي إلى تحديد معالم منهج التعامل مع التراث الفقهي، فلخصه في مبادئ ثلاثة:
المبدأ الأول: عدم اتخاذ اجتهادات العلماء حجة شرعية ذلك أن تحيز المذاهب داخل أطرها الخاصة أفرز اعتقادا معينا: وهو أن ما صدر عن رجال المذهب السابقين صحيح مطلق الصحة، وصالح عبر الزمـان والمكان، ولا يمكن إخضاعه لأي تطوير، أو تعديل، أو إضافة. وهذا الاعتقاد صير آراء أئمة المذاهب حجة في ذاتها، وأكسبها موقع الدليل الشرعي في البحث الفقهي، واعتبرت محاولة إخضاعها للاختبار والتحقيق [ ص: 197 ] طعنا في شخصية الأئمة العلمية، وخدشا في سمعة الباحث، وتشكيكا في انتمائه المذهبي. وقد سعى الشوكاني إلى تفنيد هـذه القناعات، وإثبات مخالفتها لأسس التدين، وقوانين البحث العلمي. هـذه الأسس وتلك القوانين التي تقتضي كما قال:
«أن تكون منصفا لا متعصبا في شيء من هـذه الشريعة لعالم من علماء الإسلام؛ بأن تجعل ما يصدر عنه من الرأي، ويروى له من الاجتهاد حجة عليك وعلى سـائر العباد، فإنك إن فعلت ذلك كنت قـد جعلته شارعا لا مشرعا، مكلفا لا مكلفا، ومتعبدا لا متعبدا... فإنه وإن فضلك بنوع من أنواع العلم، وفاق عليك بمدرك من مدارك الفهم فهو لم يخرج بذلك عن كونه محكوما عليه متعبدا بما أنت متعبد، فضلا عن أن يرتفع عن هـذه الدرجة إلى درجة يكون رأيه فيها حجة على العباد، واجتهاده لازما لهم، بل الواجب عليك أن تعترف له بالسبق، وتقر له بعلو الدرجة اللائقة به في العلم، معتقدا أن ذلك الاجتهاد الذي اجتهده هـو الذي لا يجب عليه غيـره، ولا يلزمه سواه؛ لما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من طرق أنه قال: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر. ) [1] . [ ص: 198 ] كما رفض في ذات السياق اعتقاد أن الأئمة باجتهادهم قد كفوا من جاء بعدهم مئونة الاجتهاد، بل الأصل الجد والاجتهاد لبلوغ مكانتهم العلمية فقال: «وليس لك أن تعتقد أن صوابه صواب لك، أو خطأه خطأ عليك، بل عليك أن توطـن نفسـك على الجد والاجتهاد، والبحـث بما يدخل تحت طوقك، وتحيط به قدرتك، حتى تبلغ إلى ما بلغ إليه من أخذ الأحكام الشرعية من ذلك المعدن الذي لا معدن سواه، والموطن الذي هـو أول الفكر وآخر العمل. فإن ظفرت به فقد تدرجت من هـذه البداية إلى تلك النهاية، وإن قصرت عنه لم تكن ملوما بعد أن قررت عند نفسك، وأثبت فـي تصورك أنه لا حجة إلا لله، ولا حكم إلا منه، ولا شرع إلا ما شرعه، وأن اجتهادات المجتهدين ليست بحجـة على أحد، بل هـي مختصة بمن صدرت عنه لا تتعداه إلى غيره، ولا يجوز له أن يحمل عليها أحدا من عباد اللـه. ولا يحل لغيره أن يقبلها عنه، أو يجعلها حجة عليه يدين الله بها، فإن هـذا شيء لم يأذن الله به، وأمر لم يسوغه لأحد من عباده» [2] .
المبدأ الثاني: إعمال النظر المستقل في دراسة التراث الفقهي وهذا يعني عـدم رفض أو قبول ما اسـتقر فيه من آراء، لا لصحتها أو عدم سلامتها في ذاتها؛ بل لمكانة القائلين بها، وهو ما لخصه في قوله: «ومن حق الإنصاف ولازم الاجتهاد أن لا يحسن الظن أو يسيئه بفرد من أفراد أهل العلم على وجه يوجب قبول ما جاء به، أورده من غير إعمال فكر، [ ص: 199 ] وإمعان نظر، وكشف وبحث، فإن هـذا شأن المقلدين، وصنيع المتعصبين، وإن غرته نفسه بأنه من المنصفين»
[3] .
المبدأ الثالث: عدم اعتبار الكثرة مقياسا للصحة وفيه قال: «وأن لا يغتر بالكثرة، فإن المجتهد هـو الذي لا ينظر إلى من قال، بل إلى ما قال، فإن وجد نفسه تنازعه إلى الدخول في قول الأكثرين، والخروج عن قول الأقلين، أو إلى متابعة من له جلالة قدر، ونبالة ذكر، وسعة دائرة علم، لا لأمر سوى ذلك فليعلم أنه قد بقي فيه عرق من عروق العصبية، وشعبة من شعب التقليد، وأنه لم يوف الاجتهاد حقه» [4] .