الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  التفكير الموضوعي في الإسلام

                  الدكتور / فؤاد البنا

                  2- عدم بهت الخصوم والإشادة بإيجابياتهم:

                  من يقرأ آيات القرآن الكريم يجد أنها تعترف لغير المسلمين بأعمال حسنة تختلف نسبيا من طائفة إلى أخرى، وعلى العموم فإن المشركين وأهل الكتاب والمنافقين يقومون بأعمال طيبة في الدنيا، وقد نطقت عشرات الآيات بأن الله يحبط هذه الأعمال في الآخرة، بسبب الخلل الموجود في عقيدة هؤلاء [1] .

                  وقد علمنا القرآن درسا كبيرا في الإقرار بإيجابيات الآخرين، عندما أورد الله تعالى مقولة ملكة سبأ: ( قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ) (النمل:34) ، فإن السياق يؤكد أن جملة ( وكذلك يفعلون ) هي من كلام الله عز وجل، الذي أقر ما نطقت به الملكة من حقيقة حول فساد الملوك وإفسادهم. هذا الإقرار من الله لفكر الملكة "بلقيـس" جاء رغم أنـها كانت ما تزال كافرة، حيث كانت وقومها يعبدون الشمس من دون الله، وهو درس للمسلمين لكي يلتفتوا للموضوع وليس لصاحب الموضوع، حتى يكون حكمهم منصفا. [ ص: 60 ]

                  والآية الأهم في مقام النهي عن بهت الآخرين، ولو كانوا خصوما، هي قوله تعالى: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) (الأعراف:85) ، وقد وردت هذه الجملة على لسان النبي شعيـب، عليه السـلام، حيث اشتهر قومه بالأنانية والتطفيف، إذ يكيلون لأنفسهم بمكيال وللآخرين بمكيال آخر، سواء ارتبط هذا التطفيف بالماديات أو بالمعنويات، ولذلك فقد تكررت هذه الجملة بنفس الحروف في ثلاث سور من القرآن الكريم، في: (الأعراف:85)، وفي (هود:85)، وفي (الشعراء:183) [2] .

                  إن من ظلم جاز له أن ينال ممن ظلمه ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) (الشورى:40)، سواء كان هذا النيل عمليا أو لفظيا: ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) (النساء:148)، ولكن هذا النيل اللفظي لا يجوز أن يتجاوز الحدود، بمعنى أنه يجب أن يكون على قدر الإساءة، ولا يجوز أن يقول المظلوم عن ظالمه ما ليس فيه: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) ، أما من يرمي خصمـه بما ليس فيه، بل بما فعله أو قاله هو، وهو ما يسمى في علم النفس بـ"الإسقاط" فإنه يكون قد ارتكب جرما عظيما، قال تعالى: ( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ) (النساء:112). [ ص: 61 ]

                  وقد حذر الإسلام من الفجور في الخصومة، والفجور في السياق القرآني يأتي عكس البر، قال تعالى: ( إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم ) (الانفطار:13-14).

                  يقول عبد الكريم بكار: فإذا ذكر فاسق أو شاعر ملحد، أو عدو عاقل، وأردنا تقويمه وجب أن يشار إلى الصفتين معا إنصافا له أولا، ومحافظة على رؤية متوازنة للأمور ثانيا، وحرصا على تكوين مزاج صحيح للأمة ثالثا، وإبقاء على هامش للتفاعل معه رابعا. وهذا ما مضى عليه الراشدون من سلف هذه الأمة إلى أن تفشت الأوبئة الخلقية، والعور الفكري، وعمـى الألوان، وتحولت الأمة إلى أحزاب و ( كل حزب بما لديهم فرحون ) (الروم: 32) [3] .

                  وعلى سبيل المثال، فإن الإمام علي في خلافه مع معاوية، رضي الله عنهما، والذي وصل إلى حد الاقتتال، لم يغمط لمعاوية فضله، وكذلك معاوية الذي كان يحب عليا ويعترف له بالعلم والفضل والأسبقية، بل إنه بكى عليه عند استشهاده [4] .

                  وكان الحسن البصري، رحمه الله، أحد سادة التابعين وأحد الذين تعرضـوا للأذى من قبل الحجـاج، والي العـراق أيام الخليفـة الأموي [ ص: 62 ] عبد الملك بن مروان، ورغم ما فعل الحجاج من أخطاء وخطايا وصلت إلى حد إراقة دماء كثير من العلماء وتعذيب بعضهم، فإنه -أي الحسن- عندما سئل عنه قال: "يتلو كتاب الله، ويعظ وعظ الأبرار، ويطعم الطعام، ويؤثر الصدق، ويبطش بطش الجبارين" [5] ، فأبرز محاسنه ومساوئه!.

                  وكنموذج للفرد المسلم الذي كان حذرا من الوقوع في بهت الخصوم، يروى أن رجلا شتم المهلب بن أبي صفرة الأزدي (ت/82هـ) وهو القائد المشهور فلم يرد عليه، فقيل له: لم حلمت عنه؟ قال: لم أعرف مساويه وكرهت أن أبهته بما ليس فيه [6] ، وهذه كانت أخلاق المسلمين عموما، وبهم قامت تلك الحضارة العظيمة؛ لأن الموضوعية تثمر العدل، والعدل من أهم عوامل الفاعلية والتمكين في هذه الأرض.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية