الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  1- القرآن والتأسيس لنسبية الحقيقة:

                  في قوله تعالى: ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) (البقرة:219) ، حرم الله الخمر والميسر تحريما قطعيا، والله لا يحرم إلا الخبائث التي تضر بالإنسان في مبناه المادي وقوامه الروحي، ومع هذا التحريم القاطع فإن هذه الآية حملت في مضمونها رسالة فكرية ضخمة إلى قارئ القرآن، وهي اعتبار النسبية وعدم وجود الشر المحض في النظر إلى الأشياء والأشخاص، إذ ليست كل مفردات الخمر والميسر إثما بل فيهما مفردات نافعة، لكن هذه المفردات أقل من مفردات الضرر، وعلى ذلك فإن التحريم محمول على الأغلب الأعم.

                  هذه المفردات النفعية القليلة في الخمر والميسر يوجد مثلها في سائر المحرمات الأخرى، ولذلك عندما توجد ضرورة كبيرة فإن تناول هذه المحرمات قد يصل إلى درجة الوجـوب، فإن الفقهـاء يقررون أن الإنسان إذا عطش واقترب من حافة الموت ولـم يكن معه إلا خمرا وجب عليه شرب ما يمنعه من الموت، وإذا كاد أن يمـوت من الجوع ولم يوجد معـه إلا ميتة أو لحم خنزير أو غيرهما من اللحوم الميتة، وجب عليه أن يأكل ما يسد الرمق ويحفظ الحياة. [1] ولا نريد هنا أن ندخل في تفاصيـل الحكم الفقهي، [ ص: 76 ] وإنما نود الإشارة إلى خلفيته الفكرية، حيث النسبية حاضرة بقوة، فما كان ضارا وحراما في موقف صار نافعا وحلالا في ظرف آخر، نظرا لأن البديل سيكون أسوأ وهو هلاك الإنسان، وهنا ترتكب المفسدة الصغرى لدرء المفسدة الكبرى.

                  هذا الحكم الفقهي هو درس فكري للمسلم عندما يتعامل مع غيره، ومهما كان شر هذا (الغير) فإن في ثناياه بعض مفردات الخيرية التي يجب أن يعترف بها المسلم، وأن لا يبخس صاحبها إياها، وأن يستفيد منها إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

                  وإذا كانت هذه النسبية موجودة في الشر والإثم (الخمر والميسر) أو في الكفر والنفاق، فمن باب أولى أن تكون حاضرة بقوة في الطوائف والجماعات والمذاهب والفرق التي تنتسب إلى عالم المسلمين.

                  وهكذا، فإن ذكر المنفعة في سياق تحريم اثنتين من الكبائر في القرآن الكريم، لابد أن الغرض منه هو إيصال هذه الرسالة الفكرية الحاثة للمسلمين على حرمة الإطلاق ووجوب التدقيق في خصائص الأشياء، وعدم التعامل معهـا دوما بالأحـكام الحـدية، التي لا تعرف إلا الحل أو الحرمة، الحب أو الكره، البياض أو السواد، القبول المطلق أو الرفض الكامل.

                  إن الإسلام وهو الدين (الحق)، عندما يتعامل المسلم مع سائر الملل والنحل، فإنه لا يتعامل معها من منطلق ادعائه بأنه يمتلك الصواب الكامل وأنها على الخطأ الكامل، وخاصة أثناء الحوارات الدعوية، وعلى الأقل على [ ص: 77 ] المستوى الجدلي الافتراضي، فهذا القرآن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين * قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ) (سبأ:24-25). فهو لا يقول نحن على الهدى وأنتم على الضلال، بل يقول: ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) (سبأ:24)، ثم نلاحظ قمة الروعة والتواضع والإنصاف في الحوار، حيث يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: ( لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ) (سبأ:25)، فينسب الإجرام إلى المسلمين والعمل إلى المشركين، فأين من ذلك ادعاء أكثر طوائف وجماعات المسلمين امتلاكها للحقيقة المطلقة عند تعاملها مع سائر الجماعات والطوائف الإسلامية؟!!

                  وفي ذات السياق الذي لا يحتكر الحقيقة في حواره مع (الآخر)، قال تعالى على لسان موسى وهارون: ( قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى ) (طه:47)، حيث سلما على من اتبع الهـدى دون أن يبينا من هـو عـلى الهدى ومن هو على الضلال!. وقال تعالى: ( قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ) (طه:135).

                  وعلى مستوى الرسالات جميعا، جاء الإسلام خاتما للأديان وناسخا لكثير من أحكامها الثابتة في كتبها قبل التحريف، ومع ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم [ ص: 78 ] لـم يقدم نفسه كبديل أو نقيض للكل، ولكنه اعتبر نفسه مجرد لبنة في صرح الرسالة الإسلامية العظيمة الممتدة إليه من آدم، عليه السلام.

                  عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون ويقولون: لولا موضع اللبنة ) [2] وزاد في رواية أبـي هريرة، رضي الله عنه: ( فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) [3] . وحتى في تقرير الجزاء الأخروي فإن مشاهد حوارية عديدة توعدت المسيء بالنار ووعدت المحسن بالجنة بصورة عامة، قال تعالى: ( قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون * من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) (الزمر:39-40) ، ( قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ) (الأنعام:135).

                  وأعطى القرآن درسا آخر في تكامل أوجه الحقيقة، وعدم احتكار أي طرف للصواب الكامل في كل الأوقات، بالإشارة إلى إمكانية تعدد الصواب في ذات المسألة، قال تعالى ( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على [ ص: 79 ] أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ) (الحشر:5) ، فالأصل في الإسلام عدم جواز تقطيع الشجر، وهذا ما بقي عليه جماعة من جيش المسلمين، الذي حاصر حصون بني النضير، ولما كانت التحصينات من القوة بمكان بحيث جعلت اليهود يظنون أنها مانعتهم من الله، ولعدم توازن القوة بين المسلمين الذين يقيمون في العراء حيث الصحراء القارية الجامعة بين الحر الشديد في النهار والقر الشديد في الليل، إضافة إلى عدم وجود الماء وكثرة الهوام والزواحف السمية، لكل ذلك اجتهدت مجموعة من جيش المسلمين في البحث عن طريقة تثير الهلع والرعب في قلوب اليهود أو تدفعهم على الأقل للخروج من تحصيناتـهم حيث ينعمـون بالأكل والشرب والأمن، فاهتدوا إلى ضرورة تحريق بعض النخـيل؛ لأنـها ستؤدي إلى تحقيق الهدف المطلوب.

                  الشاهد في القصة أن المسـلمين انقسموا في الموقف من تحريق النخيل إلى قسمين، الأول بقي على الأصـل ورفض المشاركة، أما القسم الآخر فقد أوصلته طبيعة الظروف إلى ارتكاب هذه المفسدة باعتبارها مفسدة أصغر من بقاء المسلمين أشهرا في العراء في الظروف المشار إليها آنفا، وتساءل كل طرف عن الحكم، فنزلت الآية تصوب الطرفين: ( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ) (الحشر:5). [ ص: 80 ]

                  وحدث مثل ذلك في أمر الصلاة في بني قريظة بعد غزوة الأحزاب، حيث ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسـلمين إلى سرعة الخروج لتـأديب بني قريظة فقـال مؤذنـه: "من كان سـامعا مطيعـا فـلا يصلين العصر إلا في بني قريظة" [4] . ورغـم هذا النص القصير، وتقارب مستوى الصحابة، وبسـاطة البيئة الثقافيـة والاجتماعية التي يعيشون فيها جميعا، فقد انقسموا وفق فهمهم للنص إلى قسمين: الأول أخذ بظاهر النص ولم يصلوا إلا بعد غروب الشمـس في بني قريظة عندما وصلوا، أما القسم الآخر: فقد نظر إلى مقصـد النص وهو الإسراع وعدم التأخر فصلوا في الطريق، ولم يثبت أن أحـدا من الفريقـين ادعى أن فريقـه على الصـواب والآخر على الخطأ، بل لم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد صوب فريقا وخطأ آخر، حتى من باب الخطـأ الاجتهـادي الذي ينال صاحبه أجرا مقابل نيل المصيب أجرين، كأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلم المسلمين إمكانية تعدد الصواب في المسألة الواحدة، إمعانا في تدريب المسلمين وتربيتهم على عدم ادعاء أحد امتلاك الحقيقة المطلقة؛ لأن ذلك سيحيل التعدد في الأمة من دائرة "التكامل" إلى دائرة "التآكل"، كما فعل المسلمون المتأخرون ومنهم مسلمو هذا العصر!! [ ص: 81 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية