الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  التفكير الموضوعي في الإسلام

                  الدكتور / فؤاد البنا

                  الخاتمة

                  المعطيات والوقائع كلها تقول: إن الأرضية التي صنعت التخلف في بلدان المسلمين هي الفكر؛ ونتيجة المزاوجة بين الآفات الفكرية والعلل النفسية حادت مجاميع من المسلمين عن قيم الموضوعية والاعتدال والإنصاف.

                  ولكثافة المفردات وخطورة التداعيات الناتجة عن غياب أو ضعف الموضوعية في حياة المسلمين ربط (البعض) بين الإسلام وهذه الظاهرة.

                  غير أن المتدبر لنصوص القرآن وما صح من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والمتتبع لسلوكيات المنتمين إلى قرون الخيرية الأولى، ولا سيما الصحابة الكرام، الذين أحسنوا تمثل قيم الإسلام وتجسيدها في واقعهم، سيدرك بوضوح أن هذا الدين يمتلك أرسخ وأمتن أسس الموضوعية والتفكير الموضوعي، وأن المشكلة لا تكمن في (الدين) بل في (تدين) غالب المسلمين اليوم.

                  وبحسب ما تبين لي فإن هناك ثمانية أسس تمثل روافع للتفكير الموضوعي في الإسلام، لو أعمـلناها سترتقي بنا في معارج الكمال البشري، وهي:

                  1- التمحور حول الأفكار لا الأشخاص:

                  إذ أن الإيمان أعمال وصفات لا أشخاص ومسمـيات، والرسالة فكرة لا شخص، والتكليف اتباع للأفكار لا للأشخاص، وحتى البراءة من غير المسلم تكون من أفكاره وأفعاله السيئة لا من شخصه. [ ص: 207 ]

                  2- العدل والاعتدال في حالتي الحب والكره:

                  تضعف الموضوعية بقدر قوة العاطفة المنفلتة من رقابة العقل، ولذلك فإن الإسلام حث على مكافأة الجزاء للعمل، واحترام المعايير الموضوعية، وعلى العدل والإنصاف في التعاطي مع الآخرين، وحذر من بهت الخصوم، وأوجب الإشادة بإيجابياتهم، مع تأكيده لزوم ضبط عواطف الحب والكره، وسماها أهواء؛ لأنها تهوي بأصحابها من علياء الإنصاف إلى دنيا التعصب.

                  3- عدم احتكار الحقيقة، وإتقان آداب الاختلاف:

                  الحقيقة ذات أوجه متعددة لا يمكن لطاقات الإنسان الواحد أن تراها جميعا، والنصوص حمالة أوجه لا يمكن أن ينفرد بتفسيرها أحد، أو يدعي أنه يعرف مراد الله على وجه اليقين، ولهذا أسس القرآن لنسبية الحقيقة، وقد اختلف الصحابة في مدارس عدة، دون أن يدعي أحد امتلاكه للحقيقة، وقد ثبت أن احتكار الحقيقة يؤدي إلى تسفيه المسلمين لبعضهم، ومن ثم ينتقل التعدد في أوساطهم من أداة للتنوع والتكامل والتعاون إلى أداة للتناقض والتآكل والتباين.

                  4- إتقان فقه الإعذار:

                  من يقرأ القرآن يلاحظ بوضوح كيف يحث على صناعة الأعذار، فالله تعالى يعذر عباده، ويشيد بخلقه الذين عذر بعضهم بعضا من خلال إيراد نماذج لذلك في القرآن. [ ص: 208 ]

                  ومن تمـام فقـه الإعـذار التثبت والتبين والتمحيص قبل بناء النظريات واتخاذ المواقف والقرارات، وتغليب حسـن الظن، والعمل الدؤوب لتجفيف منابع سوء الظن، التي تتفجر في البيئات والظروف غير الصحية، وعدم نسيان طبيعة تكوين الإنسان بما يقتضي ذلك من تذويب لسيئات المحسنين في بحار إحسانهم، وعدم السماح باجتياح السيئات لحسنات المسيئين.

                  5- تشجيع الاعتراف بالجهل:

                  العلم نسبي، وما يجهـله الإنسـان - مهما أوتي من العلم - أضعاف ما يعرفه، ولهذا أسس القرآن للمنهج العلمي في التعاطي مع الظواهر والأشخاص، بما يتطلبه ذلك من اتباع لسبيل العلم، وتحريم الظن، وإعمال العقل، وسارت السنة النبوية في الدرب ذاته، حتى وصلت إلى حد جعل المتقولين بدون علم كالقتلة؛ وأوجب الإخلاص في التعاطي مع العلم؛ لأنه يجعل من الطبيعي قول العالم: "لا أدري"، بحيث تكون أولى ثمار العالم علمه بجهله، ولهذا أكثر السـلف الصالح من الصحابة والأئمة والعلماء من قول "لا أدري"، فهي ذروة العلم وقمة الإنصاف؛ لأن فيها تنازلا عن الشخصانية السقيمة لصالح الفكرة السليمة، ولهذا ذهب كثير من الأعلام إلى أن من كثر علمه قل إنكاره. [ ص: 209 ]

                  6- الإحساس بالمسؤولية الفردية ونقد الذات:

                  تتضخم الشخصانية بقدر تزكية الذات، فهي تؤدي إلى تورم هذه الذات على حساب الآخرين، لكن نصوص هذا الدين توجب صرف معظم طاقة النقد نحو الذات، وتحذر من منهج التبرير الإبليسي، وتجعل تفوق آدم وقبول توبته، وانتصار المسلمين في كثير من مراحل التاريخ، قائما على نقد الذات وتحمل المسؤولية.

                  7- احترام التخصصات والاستفادة من خبرات الآخرين:

                  أسس القرآن للتخصصات العلمية والعملية، وأوجب احترامها، وحث على المسابقة في العبودية الكونية من خلال هذه التخصصات، وقدر الخبرات، وأوجب الاستفادة من أصحابها مهما كانوا، وبهذا أوجد أساسا آخر للتفكير الموضوعي، وهذا ما جسده الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في حياتهم، فاستفادوا من خبرات الآخرين، مع احتفاظهم بتميزهم العقدي والثقافي.

                  8- النسبية وعدم التعميم:

                  حرم الإسلام التسوية بين المتقابلين، وحرم التعميم، وأكد استحالة أن يمتلك أحد الحقيقة المطلقة، وحث على مراعاة الفروق الفردية، وجعل جوهر الفقه لهذا الدين إدراك النسبية التي تبيح ارتكاب المفسدة الصغرى من أجل درء مفسدة كبرى، وتفويت المصلحة الصغرى من أجل تحصيل مصلحة كبرى.

                  نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يساعدنا جميعا على ردم الفجوة بيننا وبين ديننا.

                  والحمد لله أولا وآخرا. [ ص: 210 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية