الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  4- مراعاة الفروق الفردية:

                  لقد حبا الله الناس بقدرات متعددة ومتفاوتة، لكنها لا تجتمع أبدا في شخص واحد، ولا يمكن أن يحرم منها جميعا أي شخص، فلكل فرد منها نصيب، وهذا النصيب متفاوت، بتفاوت المواهب نفسها، وبتفاوت الظروف المساعدة على صقلها وتنميتها، ومن هنا تظل النسبية حاضرة في كل الأحوال.

                  ففي العلم أشار القرآن إلى هذه النسبية بقوله تعالى: ( وفوق كل ذي علم عليم ) (يوسف:76) ، وتقوم الاستفادة من (الآخر) على أصول عدة، منها هذا الأصل، حيث أعطى الله منحه العلمية للناس جميعا بحسب جهدهم، ومن ثم يمكن أن يتفوق غير المسلم على المسلم في بعض العلوم والتخصصات، فيجب على المسلم إنصافه والاعتراف بما عنده من نقاط قوة: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) (الأعراف:85 )، داعيا للانطلاق من ذلك إلى الاستفادة من هؤلاء؛ لأنهم أهل خبرة ودراية، كما أسلفنا. [ ص: 192 ]

                  وفي قضية الدعوة والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دعا القرآن إلى الانطلاق من الحكمة: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) (النحل:125)؛ والحكمة هي وضع الشيء في محله، بمعنى الانطلاق من قيمة النسبية، بمراعاة الفروق الفردية بين الناس، والدخول على كل شخص بما يكون أصلح لتعليمـه ودعوته، ولذلك ذكر في الآية ذاتها قوله تعـالى: ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) ( النحل:125)؛ و (الأحسـن) هنا نسبية تختلف من شخص إلى آخر، فقد ينفع أسلوب اللين مع أشخاص، لكن آخرين قد لا ينفع معهم إلا الشدة، ولذلك قال القرآن في موضع آخر: ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ) (فصلت:34) فلم يقل ادفع السيئة بالحسنة دوما، ولكن قال ( بالتي هي أحسن ) ، بمعنى أن هناك من لو رد على سيئاتهم بحسنات لازدادوا عتوا ونفورا، وبالتـالي لابد من (الحكمة) بحيث يستخدم الأسلوب المناسب مع الشخص المناسب، ومن وصل إلى هذه الدرجة من فهم الناس والتعامل معهم بما يتناسب مع عقولهم وطبائعهم يكون قد وصل إلى درجة الحكمة، وهي عطية الله لمن التزموا بأسس الموضوعية والتزموا طريق العـدل والإنصاف، وساروا في درب العلم والمعرفة، قال تعالى: ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) (البقرة:269). [ ص: 193 ]

                  وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي الفروق الفردية في دعوته للناس وتربيته لأصحابه، فعلى سبيل المثال، سئل مرات عدة عن أفضل الأعمال، وكان في كل مرة يجيب بإجابة مختلفة، وقد علل ابن تيمية ذلك بقوله: "والأفضل يتنوع بتنوع الناس... فمن الأعمال ما يكون جنسه أفضل ثم يكون تارة أخرى مرجوحا أو منهيا عنه... وقد يكون شخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل فيكون أفضل في حقه. كما أن الحج في حق النساء أفضل من الجهاد، ومن الناس من تكون القراءة أنفع له من الصلاة. ومنهم من يكون الذكر أنفع له من القراءة... والشخص الواحد يكون تارة هذا أفضل له وتارة هذا أفضل له" [1] .

                  وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحـدث الناس بما يفهمون، ويتعـامل معهـم بما يعقلون ويقبلون، وترك أمورا من الشرع ليتألف بتركها قلوب بعضهم، أو حتى لا يحدث سوء فهم قد ينقلب إلى فتنة، مثل تركه لإعادة بناء الكعبة على الأسس التي بناهـا إبراهيم صلى الله عليه وسلم . فقد قال لعائشة، رضي الله عنها: ( لولا قومك حديث عهدهم - قال ابن الزبير: بكفر- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس وباب يخرجون ) [2] . [ ص: 194 ]

                  وشرع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم التيسير كقيمة إسلامية أصيلة من أجل مراعاة القدرات المختلفة بين المسلمين. قال صلى الله عليه وسلم : ( يا أيها الناس خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل ) [3] . وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ) [4] .

                  وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا من يومئذ، فقال: ( أيها الناس، إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة ) [5] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية