الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  4- العدل في التعامل مع الآخرين:

                  إن المسلم الحق هو الذي لا يخل بميزان العدل مع خصمه وعدوه فضلا عن المنافس له، قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) (المائدة:8) [1] فلا يصح شرعا أن يدفع كره المسلم للكفر أن يتخلى عن موازين العدل، نظرا لما أسلفنا في بيانه، من أن الكراهة تتجه للكفر والنفاق والعصيان وليس للشخص. [ ص: 66 ]

                  وقال تعالى: ( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) (المائدة:2) ، وهي دعوة إلى عدم الاستجابة لعواطف الكره والبغض بحيث تدفع صاحبها إلى الاعتداء، بل يجب التعاون بين المسلمين وغيرهم إذا كانت هناك قواسم مشتركة بين الطرفين مرتبطة بحقوق الناس "البر" أو بحقوق الله "التقوى" [2] .

                  وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء كما صدوا أصحابنا، فأنزل الله ( ولا يجرمنكم ... ) الآية [3] .

                  والمسلم مطالب، كفرد وكمجتمع، أن يتعامل بالإقساط مع غيره، بحيث يعطي لكل صاحب حق حقه بدون غمط، بحيث يمتلك ميزانا دقيقا لتقدير حقوق الآخرين، مادية كانت أو معنوية، فيستوفيها لهم من نفسه، قال تعالى: ( وزنوا بالقسطاس المستقيم ) (الإسـراء:35)، وقال: ( وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) (الحجرات:9). [ ص: 67 ]

                  والعدل بمعناه العريض، إعطاء الحقوق لأصحابها وأداء الأمانات لأهلها، هو القاعدة الصلبة التي تحفظ لأي مجتمع تلاحم أبنائه وتكويناته ومفرداته، وإذا غاب العدل فإن هـذا المجتمـع لا شك آيل إلى السقوط، ولا فرق بين أن يكون هذا المجتمع مسلما أو غير مسلم.

                  يقول الطرطوشي: "إن السلطان الكافر الحافظ لشروط السياسة الاصطلاحية أبقى وأقوى من السلطان المؤمن العدل في نفسه المضيع للسياسة الشرعية. والجور المرتب أبقى من العدل المهمل، إذ لا أصلح للسلطان من ترتيب الأمور ولا أفسد له من الحكم، ولا يقوم سـلطان إيمـان أو كفر إلا بعدل نبوي أو ترتيب اصطلاحي" [4] .

                  وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، إلى أبعد من ذلك، إذ قال: "فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة. ولهذا يروى "الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنـة" [5] ، وقال ابن تيمية في موضـع آخر: "وأمور النـاس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم يشترك في إثم. ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم [ ص: 68 ] والإسلام... وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بالعـدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة" [6] .

                  ومن يقرأ ما سطره كبار علماء الأمة من القدامى، يلاحظ أنهم في تأكيدهم القيمة المركزية للعدل في بناء المجتمع الإسلامي لم يغادروا نفس المربع الذي وقف عليه الإمامان الطرطوشي وابن تيمية، ومن هؤلاء: الغزالي والشاطبي والعز بن عبدالسلام وابن القيم والماوردي والفراء والجويني [7] .

                  ولو ألقينا نظرة على هذه القيمة في واقع حياتنا كمسلمين في هذا العصر في مقابل المجتمعات (الأخرى)، سنحصل على أهم نقطة في الجواب على السؤال المطروح دوما: لماذا انهزمنا في هذا العصر وانتصروا ؟ لماذا اختلفنا وتوحدوا، لماذا تخلفنا وتقدموا ؟!.

                  وفي الوقت نفسه سنهتدي لأهم سبب في قوة مجتمعاتنا الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى، فقد كان العدل (بوصلتهم) وكان القسطاس ميزانهم، وكان الإنصاف ديدنهم، مهما تعددت المشارب الفكرية وتنوعت المذاهب الفقهية، بل ومهما كانت طوائفهم ومدارسهم، حيث يحدب بعضهم على بعض، ويسدد بعضهم بعضا، ويعذر بعضهم بعضا [8] . [ ص: 69 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية