الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  التفكير الموضوعي في الإسلام

                  الدكتور / فؤاد البنا

                  5- الصحابة يسيرون في طريق التخصص والاستفادة من (الآخر):

                  رغم انشغال أكثر الصحابة بالجهاد، حيث كانت تلك المرحلة تقتضي التأسيس للدعوة وإقامة الدولة، ومواجهة الأعداء المتربصين بهذه الأمة الناشئة الدوائر، مع ذلك فقد كانت سائر التخصصات التي لا تزدهر الحياة إلا بها في ذلك الزمان موجودة، سواء كانت تخصصات علمية كالدعوة والوعظ والتعليم في مختلف حقول المعرفة المتوافرة آنذاك، أو تخصصات عملية شاملة لسائر المهن المساهمة في عمارة الحياة وخدمة الإنسان من طبابة وتمريض وصيدلة وهندسة وعمارة ونجارة وزراعة وحرف وتجارة، أو تخصصات ثقافية أدبية كالشعر والرواية والإنشاد والوعظ والترجمة.

                  ولو لم يشتمل ذلك المجتمع السامق على سائر التخصصات لإقامة مداميك تلك الأمة لما قامت بذلك الإتقان وتلك القـوة، خلال زمن وجيز لا يتعدى نصف قرن من الزمان.

                  ولما لم يكن العرب أصحاب مهن، فضلا عن أن يكونوا أصحاب حضارة، فقد استفادوا من تجارب ومنجزات الآخرين، ولم يجدوا في ذلك غضاضة أو عيبا.

                  ولمعرفة الصحابة بأن أصول الإسلام ومقاصد الشريعة تجيزان الاستفادة من (الآخر)، فقد اقترح بعض الصحابة الاستفادة من وسائل اليهود والنصارى في الدعوة إلى الصلاة، قبل أن يشرع الآذان. [ ص: 178 ]

                  عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: ( كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل قرن اليهود، فقـال عمر: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا بلال قم فناد بالصلاة ) [1] .

                  ولإيمان الصحابة بأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، فقـد استفـاد اثنان من كبارهم من امرأة نصرانية في مسألة مرتبطة بعبادة قلبية.

                  روي أن سلمان الفارسي وأبا الدرداء، رضي الله عنهما، أرادا الصلاة في بيت نصرانية، فقال لها أبو الدرداء: هل في بيتك مكان طاهر، فنصلي فيه؟ فقالت: طهرا قلوبكما، ثم صليا أين أحببتما! فقال له سلمان: خذها من غير فقيه [2] . ووصل الأمر بالصحابي الجليل أبي هريرة إلى الاستفادة من الشيطان كما جاء في حديث صحيح.

                  وقد استفاد الصحـابة الكرام جميعا من خبرات أهـاليهم وأقوامهم، لم يمنعهم كفر أولئك من تلك الاستفادة، مثل استفادة سلمان الفارسي رضي الله عنه حفر الخندق يوم الأحزاب من قومه الفرس وهم عباد النار، وتشجيع الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الفكرة وتطبيقها على الفور، مادامت تساهم في درء مفسدة وتحقيق مصلحة للمسلمين. [ ص: 179 ]

                  وعند إقامة الدولة الإسلامية استفاد الخلفاء الراشدون من تجارب الدول الأخرى وخاصـة الفارسية والرومانية، حيث أخذوا منهم الكثير من الخبرات والأعراف السياسية والإدارية والاقتصادية، بل ظلت العملة المتداولة في دولة المسلمين لسنوات طويلة، هي ذات العملة الموجودة في بلاد الروم وفي بلاد الفرس.

                  ووصل الأمر إلى أبعد من ذلك، فقد أثمر التفاعل الحضاري بين المسلمين وغيرهم أن دخلت إلى المنظومة الثقافية الإسلامية الكثير من الجزئيات التي لا تدخل تحت إطار ما يسمى بالغزو الثقافي.

                  ومن ذلك اشتمال العربية على كلمات من لغات غير عربية كالفارسية والحبشية، واستخدام القرآن لهذه الكلمات، كما ذهب إلى ذلك كثير من علماء المسلمين [3] .

                  وحتى لو لم يحتوي القرآن على أي مفردة غير عربية، كما ذهب إلى ذلك علماء آخرون، اعتمادا على دلائل اقتنعوا بها، فإن الرأي الذي يرى احتواء القرآن على كلمات غير عربية إنما اتكأ على الأصل العام الذي قام عليه الإسلام في هذا الصدد، وهو جواز الاستفادة من (الآخر)، بل وجوب هذه الاستفادة إذا كان الأمر المطلوب لن يتحقق إلا بها "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"! [ ص: 180 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية