الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  1- القرآن وصناعة الأعذار:

                  أ- الله يبحث لعباده عن أعذار:

                  سجل القرآن نماذج من صناعة الأعذار، حيث عذر الله عباده في مواضع عدة، بحيث إن حضور العذر يخفف من وطأة الجرم، ومن ذلك قوله تعالى:

                  - ( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ) (النور:15) ، حيث عذر الله المسلمين الذين انخرطوا في الإفك الذي رمى السيدة عائشة، رضي الله عنها، بالزنى قوليا بدون علم، إذ اشتركت ألسنتهم وأفواههم دون قلوبهم، وهذا بالطبع ليس [ ص: 87 ] تبرئة لهم ولكنه تخفيف من جرمهم؛ لأن العقول والقلوب لم تشترك في تدبير هذه الفرية، بل لم تفكر حتى في عواقبها ومآلاتها!

                  - ( والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) (الشعراء:224-226)، وهذه الآية تخفف عن الشعراء بحيث تقول: إنهم يقولون ما لا يفعلونه، مثل الحديث عن الخمرة والمعشوقة! [1] ، وهو أحد معاني هذه الجملة من الآية.

                  - ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) (التوبة:6)، حيث اعتبر أن الشرك نتيجة لمقدمة هي عدم العلم، بمعنى أن الشرك في الغالب ليس انحرافا فطريا، وأنه لو توفر العلم لهؤلاء ومعرفة الإسلام كما هو لاعتنقوه، ولهذا دعا القرآن لمراعاة عذر هؤلاء بالدعوة الحكيمة والمعاملة الطيبة والمخاطبة بالتي هي أحسن.

                  ب- نماذج من إعذار الخلق لبعضهم: وهناك أعذار سجلها القرآن، وردت على ألسنة بعض مخلوقات الله تعالى من الإنس والحيوان، وهي صورة من صور التأصيل لهذه القيمة الخلقية الرائعة، ومن ذلك: [ ص: 88 ]

                  - إعذار يوسف، عليه السـلام، لإخوته بتحميل الشيطان مسـؤولية ما فعلوه به: ( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ) (يوسف:100)؛ ونلاحظ قمة الأدب من يوسـف، عليه السـلام، عندما لم يشر حتى مجرد إشارة إلى ما فعلوه به، وإنما اكتفى بالقول: ( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ) (يوسف:100)! رغم أن ما فعله إخوته به لم يكن أمرا عارضا، بل جاء نتيجة دراسة وتخطيط، وسبقه ترصد وتدبير، ورافقه كذب ومكر وختل.

                  وكان قد عذر إخوته قبل هذا الموقف بأنهم إنما فعلوا ما فعلوه به بسبب جهلهم، قال تعالى على لسانه ( قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ) (يوسف:89).

                  - إعذار الخضر لموسى، عليه السلام، في عدم صبره على ما سيرى: ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) (الكهف:68)، ثم إعطاؤه ثلاث فرص متتابعة حتى قال موسى نفسه: ( قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ) (الكهف:76).

                  - إعذار النملة للنبي سليمان، عليه السلام، وجنوده بإمكانية أن يقوموا بدهس النمل دون شعور منهم نتيجة صغر حجمه وربما انشغال الجيش ( حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) (النمل:18). [ ص: 89 ]

                  قال الإمام الفخر الرازي: "كانت رئاسـة تلك النمـلة على غيرها لم تكن إلا بسبب أنها علمت مسألة واحدة وهي قوله تعالى: ( وهم لا يشعرون ) ، بأنها قالت: إن سليمان معصوم، والمعصوم لا يجوز منه إيذاء البريء عن الجرم ولكنه لو حطمكم فإنما يصدر ذلك منه على سبيل السهو لأنه لا يعلم حالكم، فقوله تعالى: ( وهم لا يشعرون ) إشارة إلى تنزيه الأنبياء، عليهم السلام، عن المعصية" [2] .

                  ويبدو لي أن هذه النملة كانت فقيهة، حيث حملت الآخرين على حسن الظن وبحثت لهم عن أعذار، فهي لم تتحدث عن سليمان فقط بل عن جنوده، وهم ليسوا معصومين، وفي ذات الوقت لا يجوز للمؤمن أن يؤذي خلق الله - كهؤلاء الجنود- إلا إذا كان لسبب خارج نطاق العلم والإرادة والاستطاعة. يقول السعدي: "وعرفت حالة سليمان وجنوده، وعظمة سـلطانه، واعتذرت عنهم أنـهم إن حطمـوكم فليس عن قصد منهم ولا شعور" [3] .

                  وسارت السنة النبوية مع القرآن في ذات الاتجاه، الذي يبحث عن المعاذير للآخرين، فعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ... وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب [ ص: 90 ] وأرسل الرسـل ) [4] . وصـح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود ) [5] .

                  وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) [6] ، حيث عذر النبي قومه؛ بسبب عدم علمهم، داعيا الله أن لا يؤاخذهم بما فعلوه به!

                  ووصل منهج الإعذار في الإسلام إلى حد الدعوة لدرء الحدود قبل إيصالها إلى السلطان، وإذا وصلت فإن أصغر شبهة يمكنها أن تسقط الحد الشرعي، ودعا الإسلام أبناءه إلى أن يستروا عيوبهم، وأن يستر بعضهم عيوب بعض، فلا يتعرض لها باللسان، فضلا عن إيصالها إلى الحكام!

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية