الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  2- الإسلام يعلمنا الالتفات إلى الذات:

                  إن مسيرة الفرد والمجتمع البشريين يتسمان بالتذبذب بين المتناقضات: التقدم والتخلف، الصعود والهبوط، النصر والهزيمة، النجاح والسقوط، الفوز والخسارة، غير أن هذا التذبذب ليس عشوائيا وإنما يقوم على نواميس وسنن محايدة أودعها الله في هذا الكون، والصالح لعمارة الأرض هو من يحسن استغلالها واستثمارها بعد اكتشافها بالطبع.

                  وقد ربى القرآن الكريم أتباعه على المنهج السنني وربطهم به، طالبا منهم الجمع بين الالتزام بالسنن والأخذ بالأسباب، والاتكال العميق عليه تعالى، وجعل تعالى الالتزام بهذه المعادلة في كل ميادين الحياة نصرا له جل وعلا يستحق صاحبها أن ينصره الله: ( ولينصرن الله من ينصره ) (الحج:40) ، ( إن تنصروا الله ينصركم ) (محمد:7). ومن هنا جاءت قاعدة التغيير القرآنية: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11) ، بمعنـى أن أي مجتمـع لا ينتقـل من وضع حسن إلى سيء أو العكس إلا إذا غير ما فيه من مفردات الوضع السابق وتأهل بمؤهلات الوضع الجديد، سواء كان السير إلى الأمام أم إلى الخلف!

                  ولأهمية هذه القاعدة، وذلك القانون الإلهي، فقد ربى القرآن أتباعه عليه من خلال موقف هائل، انتصر فيه عباد هبل واللات والعزى على جيش فيه [ ص: 137 ] محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومصعب وحمزة ومعاذ وسعد وغيرهم من أصحاب القامات السامقة، رضي الله عنهم، بل وجرح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف "موقعة أحد" وكسرت رباعيته وسقط في الحفرة التي حفرها أحد المشركين، وأشيع بين المسلمين أنه قد قتل، واسـتشهد سبعون من خيرة الصحـابة على رأسهم سيد الشهداء حمزة وحامل لواء المسلمين مصعب بن عمير، وفر العشرات من المسلمين من حول الرسول صلى الله عليه وسلم تاركين إياه مع قرابة العشرة من صناديد الصحابة. كل ذلك حدث في مطلع الدعوة الإسلامية، وفي شباب الدولة المسلمة، بعد نصر مدو في العام السابق يوم بدر، قتل فيه سبعون مشركا وأسر مثلهم، وهنا جاء التساؤل: من أين وكيف جاءت الهزيمة؟! هل من العبقرية العسكرية لخالد بن الوليد والدهاء السياسي لأبي سفيان، وهما قائدا المشركين يومئذ، أم من عوامل خارجية أخرى مرتبطة بالمناخ العام في الجزيرة؟ أم من الشيطان؟ أم من تحريض الرومان والفرس للمشركين على المسلمين؟

                  لا شك أن كل ذلك يمكن أن يكون ضمن منظومة متكاملة من العوامل المتسببة في هزيمـة المسـلمين في أي معركة، عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية مع أي عدو من أعدائهم في أي زمان أو مكان، لكن الدرس القرآني الكبير لفت الأنظار إلى الأرضيـة التي سمحت باستنبات أشجار الهزيمة وحشائش الضعف والوهن، إنها العوامل الداخلية، قال تعالى: [ ص: 138 ] ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ) (آل عمران :165) [1] .

                  إذن، هذا الدرس التاريخي الثمين بضريبته الباهظة يعلم المسلمين دوما أن يلتفتوا إلى العوامل الداخلية، وأن يعملوا المنهج النقدي، وأن يفعلوا آليات اكتشاف أوجه الخلل ومساحات الوهن ودوائر الغثائية قبل أن تستفحل وتتمكن، وأن يبتعدوا بالتالي عن المنهج التبريري، والتفسير التآمري للأحداث، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا!

                  وأكتفي بهذا الدرس البليغ عن إيراد عشرات الآيات في هذا السياق، إضافة إلى آيات التوبة والاستغفار، وإيراد قصص الصراع بين الحق والباطل، وحكايات الأنبياء مع أقوامهم حيث كانت حكاياتهم قمة في الالتزام بالموضوعية والنقد الذاتي، وإعذار الآخر، وتحمل المسؤولية وعدم تزكية الذات.

                  وبالنسبة للسنة النبوية، فسنركز قليلا على مفردة واحدة من المفردات ذات الصلة بقضية النقد الذاتي، وذلك من خلال الدعاء. فلأول وهلة يتوقع الإنسان أن الدعاء، وهو استمداد العبد الضعيف من القوة المطلقة، سيتركز على العوامل الخارجية التي تمثل العداوة السافرة للمسلم والتي قد لا يستطيع التحكم بها مثل تحكمه بنفسه وبالعوامل المرتبطة بذاته، ومع هذا فسيتبين لنا أن أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم مرتبط بطلب الإعانة على العوامل الذاتية المرتبطة بالنفس [ ص: 139 ] وضعفها وظلمها وطغيانها ونسيانها وجحودها وطمعها وجزعها وجبنها وبخلها وكنودها.. وهكذا.

                  - عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت... ) [2] .

                  - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) [3] .

                  - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بهؤلاء الكلمات ( اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا -يعني فتنة الدجال- وأعوذ بك من عذاب القبر ) [4] .

                  - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني؛ اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطاياي وعمدي، وكل ذلك عندي ) [5] . [ ص: 140 ]

                  - عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: ( قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم ) [6] .

                  - عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: ( اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل ) [7] .

                  - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها ) [8] .

                  - وعن شكل بن حميد قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، علمني تعوذا أتعوذ به، قال: فأخذ بكتفي فقال: ( قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي، يعني فرجه ) [9] . [ ص: 141 ]

                  - عن عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أباه حصينا كلمتين يدعو بهما: ( اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي ) [10] .

                  - وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان في خطبه يستعيذ بقوله: ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ) [11] .

                  وإذا كان النقد الذاتي يعني إعمال العقل تفكرا فيما سلف، وإعمال القلب تقليبا فيما مضى، في سياق محاولة التخلص من السيئات والأخطاء، وفتح صفحة جديدة في كتاب "الذات"، وابتداء مرحلة جديدة في الحياة، فإن الشعائر التعبدية من ضمن مقاصدها تحقيق هذا المقصد.

                  فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي كالنهر الذي يجري بباب بيت صاحبها، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، وكذلك الجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، ما اجتنبت الكبائر، فالحسنات يذهبن السيئات، والحج المبرور الذي يلتزم فيه المسلم بأركانه وشروطه وآدابه، مستمدا من الله التقوى محطة عمرية، يعود الفرد بعدها كيوم ولدته أمه.

                  حتى بعض الصلوات الدورية المرتبطة بمناسبات وأحداث غير طبيعية، مثل صلاة الاستسقاء وما يرافقها من خروج للصغار والكبار على صعيد واحد، [ ص: 142 ] مرتدين الثياب وهي مقلوبة، ومظهرين أقصى درجات الذل والانكسار، مستغفرين بقلوبهم قبل ألسنتهم وأجسادهم، هي مسيرة احتجاجية على ذنوبنا وآثامنا وكوامن الشر والطغيان والفساد والقصور في ذواتنا.

                  الإسلام إذن، يدعو الفرد للتضاؤل والتواضع، ويجفف كل المنابع المؤدية إلى تورم "الذات"، داعيا الفرد والمجتمع إلى الانشغال بعيوبهما عن عيوب الآخرين، وإلى إيلاء العوامل الذاتية اهتماما أكبر بكثير من العوامل الخارجية، وقد رأينا في مفردة الدعاء كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة كيف يلتفتون إلى ذواتهم، وكيف يطلبون من الله المدد والإعانة في هذا السبيل، ومن خلال استقرائي لدعوات النبي صلى الله عليه وسلم في كتب الصحاح، فإن أكثر من ثلاثة أرباع هذه الدعوات متركزة على الذات والعوامل الداخلية، هذا في وقت كانت الدنيا كلها تتربص بالطائفة المسلمة الدوائر، من منافقين يتسللون داخل الصف المسلم، ومن يهود يمدون المنافقين بأحابيل المكر والختل والخداع والتآمر، ومن مشركين يحيطون بالجماعة المسلمة إحاطة السوار بالمعصم، وخلف هؤلاء جميعا تقف الدنيا كلها للجماعة المسلمة بالمرصاد، ولعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن كل هؤلاء من أهل الباطل لا يمكن أن يصنعوا بأهل الحق شيئا ما لم تكن ثغورهم الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية هزيلة أو واهية، فقد انشغل ببناء الذات القوية الفاعلة والأسرة المتماسكة المتينة، والمجتمع المتحد المرصوص، فلم يجد أولئك المتربصون قابلية في صرح المجتمع الإسلامي لاستزراع أشواكهم! [ ص: 143 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية