الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  3- الصحابة وعلم "لا أدري":

                  اتسم عموم الصحابة الكرام، رضي الله عنهم، بالحرص على تحصيل العلم، العلم الذي جعلهم يخشون الله ويتواضعون للناس، وعرفهم قدر أنفسهم، فعرفوا أن علمهم نسبي، وأن هناك الكثير من المساحات الواسعة التي يجهلونها.

                  ولهذا اشتهر الصحابة بكراهة القول بالرأي بدون علم، وكانوا شديدي الحرص على التفريق بين مراد الله الذي لا يعرفه إلا هو، وبين اجتهاداتهم الشخصية التي لا تعبر إلا عن ذواتهم [1] .

                  ولما كان أعلم الصحابة أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، فقد كانا يتهيبان الإفتاء مخافة أن يقعا فيما لا يعلما، واشتهر عنهما هذا الخوف أكثر من غيرهما، ورويت عنهما حكايات ومقولات كثيرة في هذا الشأن [2] . [ ص: 111 ]

                  وفي ذات السياق روى ابن القيم بسنده أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: "أي أرض تقلني وأي سمـاء تظلني إن قلت في آية من كتـاب الله برأيي، أو بما لا أعلم" [3] .

                  وقد اشتهر عن الصحابة تدافعهم بالفتوى، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أراه قال في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخـاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا. وورد عنه أيضا قوله: "أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحـاب رسـول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم رجل يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه، ولا يحدث حديثا إلا ود أن أخاه كفاه" [4] .

                  وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما الصحابة عن معنى قوله تعالى: ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل ) (البقرة:266) ، فلم يقولوا جميعا سوى: الله أعلم. وعندما حثهم -عمر- على المحاولة أجاب عبدالله بن عباس، رضي الله عنهما، نصف إجابة على حذر شديد [5] .

                  وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، على جلالة قدره ومكانته العلمية التي أهلتـه لأن يوافقه القرآن في أكثر من عشرين موضعـا، كان [ ص: 112 ] لا يستغني بعلمه، وكان يستشير الصحابة في مسائل كثيرة، وكانت تحدث المسألة الواحدة فيجمع لها أصحاب بدر.

                  ومما اشتهر عن عمر، رضي الله عنه، في هذا السياق استشارته للإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في عدد من المسائل القضائية والفقهية، آخذا برأيه وفتياه، مع أنه كان أصغر سنا منه وأقل علما، بل اشتهرت مقـولته عنه: "لولا علي لهـلك عمر"، و "أعوذ بالله من معضـلة ليس لهـا أبو الحسن" [6] . وكان كثـيرا ما يأخذ بآراء وفتاوى حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، رغم أنه في سن أولاده.

                  ومن وصية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأولاده: احفظوا عني خمسا، فـلو ركبتم الإبل في طلبهن لأنضيتموهن (أذبلتموهن) قبل أن تدركوهن: لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي إذا لم يعلم أن يتعلم، ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له. وفي رواية قال: وأبردها على كبدي إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول: الله أعلم [7] .

                  وروي عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: " من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: [ ص: 113 ] لا أعلم، فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) (ص:86)" [8] .

                  وعن مسروق قال: كنا عند عبد الله جلوسا، وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن قاصا عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله، وجلس وهو غضبان: يا أيها الناس، اتقوا الله، من علم منكم شيئا فليقل بما يعلم، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) (ص:86) [9] .

                  وكان عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، من أشد الصحابة حذرا في الفتوى، لا يفتي حتى يتفهم الأمر جيدا، فقد حدث أن سأله رجل عن مسألة، فطأطأ ابن عمر رأسه ولم يجبه، حتى ظن الناس أنه لم يسمع مسألته، فقال الرجل له: يرحمك الله؛ أما سمعت مسألتي؟ قال: بلى، ولكنكم كأنكم ترون أن الله ليس بسائلنا عما تسألونا عنه، اتركنا يرحمك الله حتى نتفهم في مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك [10] . [ ص: 114 ]

                  "وكان فرحه بالمسألة التي لا يعلم جوابها عندما يقول: لا أعلم، أكبر من فرحه بإجابته عن المسألة التي يعرف جوابها، فقد سأل ابن عمر رجل عن مسألة، فقال ابن عمر: لا علم لي بها، فلما أدبر الرجل قال ابن عمر: نعم ما قال ابن عمر، سئل عما لا يعلم فقال: لا علم لي به .

                  "ومن هنا كانت المسائل التي يردها دون جواب عليها أكثر من المسائل التي يجيب عليها. قال نافع: كان ابن عباس وابن عمر يجلسان للناس عند مقدم الحاج، فكنت أجلس إلى هذا يوما وإلى هذا يوما، فكان ابن عباس يجيب ويفتي في كل ما سئل عنه، وكان ابن عمر يرد أكثر مما يفتي" [11] .

                  وعن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع ابن عمر نمشي، فلحقنا أعرابي فقال: أنت عبد الله بن عمر؟ قال: نعم . قال: سألت عنك فدللت عليك، فأخـبرني أترث العمة؟ قال: لا أدري، قال: أنت لا تدري؟ قال: نعم، اذهب إلى العلماء بالمدينة فاسـألهم، فلما أدبر قبل يديه وقال: نعما ما قال أبو عبد الرحمن، سئل عما لا يدري فقال: لا أدري [12] .

                  وعن أبي المهلب قال: سمعت أبا موسى الأشعري على منبره وهو يقول: من علمه الله علما فليعلمه، ولا يقولن ما ليس له به علم، فيكون من المتكلفين ويمرق من الدين [13] . [ ص: 115 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية