الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  2- المسابقة في العبادة من خلال التخصصات:

                  يحتوي القرآن على آيات كثيرة ذات صلة بقضايا وموضوعات محددة، وذلك عند قراءة أسباب نزولها، أما عند النظر إلى ألفاظها فإنها عامة، كعادة القرآن حتى يكون صالحا لكل زمان ومكان، وحتى يمكن إدخال أكبر عدد ممكن من المفردات الحياتية تحت عنوان واحدة من آيات القرآن، ومن هنا فإن هناك عددا من آيات القرآن التي تصلح للاستشهاد بها في مجال الدعوة للمسابقة والمنافسة على العبودية من خلال إقامة التخصصات، ومنها قوله [ ص: 158 ] تعالى: ( ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ) (البقرة:148). وفي تفسيره لهذه الآية أورد الفخر الرازي عددا من الأقوال في سياق الحديث عن الصلاة والكعبة وتغيير القبلة [1] .

                  ولما كان المسلمون في ذلك الزمن التليد متقنين لمفردات المنهج السنني في عمارة الحياة، ويدركون أهمية احترام التخصصات، وانخراط الناس في الأعمال والمهن المختلفة، فقد مرروا الآية على ظاهرها المرتبط بشعيرتي الصلاة والقبلة.

                  ومن المعلوم أن إحدى صور الإعجاز القرآني أن ألفاظه حمالة أوجه، حتى يستطيع تلبية حاجة الناس في كل زمان ومكان، فمباني القرآن محدودة لكن معانيه غير متناهية، وإذا حاولنا الجمع بين ظواهر النصوص ومقاصد الدين وحاجات الأمة اليوم وما استقر عليه أمر سلفنا فيما يتعلق بعمارة الحياة، فإن ذلك كله يدفعنا لاعتبار هذه الآية من الأسس التي تبني الرؤية الإسلامية في تقدير التخصصات وإقامتها: ( ولكل وجهة هو موليها ) .

                  وهي دعوة للتسابق في عبادة الله من خلال شعب الإيمان الكفيلة بعمارة شعاب الحياة وخدمة الحقوق الإنسانية: ( فاستبقوا الخيرات ) ، بحيث مهما يكن تخصص المسلم الحياتي أو العملي، فإنه يستطيع إرضاء الله [ ص: 159 ] من خلاله، بتقديم الخدمة للآخرين بإتقان وإحسان، بحيث يشعر أنه على ثغر من ثغـور هـذا الدين، سـواء كانت هذه الثغـور سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقـافية أو علمية . ومن ثم فإن الأجر موفور في هذه الـدائرة، كما هو في دائـرة العبادات المحضـة "الشعـائر التعبدية": ( أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا ) ، وربما كان أجر هذه العبادات أوفر؛ لأن العبادات المتعدية أوفر أجرا من العبادات اللازمة، حسب اتفاق أغلب العلماء.

                  وتكاد هذه الآية أن تدعو الإنسان لإبراز مواهبه وخدمة أمته من خلالها، ولذلك قال الإمام الرازي في تفسير : ( هو موليها ) أي قد زينت له تلك الجهة وحببت إليه، أي صارت بحيث يحبها ويرضاها" [2] .

                  وهـكذا، فإن مجيء هـذه الآية في سياق الحديث عن الصلاة والقبلة لا يمنع من أن تكون معلما على طريق تأسيس التخصصات العلمية والعملية وتقديرها، فإن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". وجاء هذا التأسيس في سياق الحديث عن عبادة محضة وهي تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، كأنه تعالى يلفت أنظار المسلمين إلى العبادة بمفهومها الشامل في محراب الحياة، وهو يحدثهم عن شعيرة خاصة بمحراب الصلاة، مثل قوله تعالى: ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) (البقرة:197) ، فإن [ ص: 160 ] مرتبطة بالجوانب المادية كالأكل والشرب ( فإن خير الزاد التقوى ) واضح أنها مرتبطة بالزاد المعنوي الروحي كالصلاة والحج [3] .

                  ومثـل آيـة ( ولكل وجهة هو موليها ) ، توجـد آيات عـدة، يمكن اعتبارهـا أدلـة على وجوب التخصص في جانب من جوانب الحياة، وخاصة في هذا الزمن الذي تعمقت فيه العلوم وتكثفت، ولم يعد ينفع فيه التسطيـح، ولم يعـد من الممكن وجود الرجل الموسوعي، ومن هذه الآيات:

                  - ( قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ) (الإسراء:84). قال ابن عباس: "على ناحيته". وقال مجاهد: "على حدته وطبيعته". وقال قتادة: "على نيته". وقال ابن زيد: "دينه" [4] .

                  - ( ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون ) (الأنعام: 132).

                  - ( ولكل درجات مما عملوا ) (الأحقاف:19).

                  - ( ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات ) (المائدة:48). [ ص: 161 ]

                  - ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ) (الأنعام:165).

                  - ( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) (الزخرف:32).

                  ولما كانت المسارعة والمسابقة في العبادات المباشرة مع الله مطلوبة، فإن عموم آيات المسابقة والمسارعة تصلح للاستشهاد بها في مجال الأعمال والتخصصات؛ لأنها عبادات كثيرة الأجر، نظرا لتعدي ثمارها المباشرة إلى الآخرين، قال تعالى: ( ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ) (آل عمران :114)، ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا ) (الأنبياء:90)، ( أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ) (المؤمنون:61)، ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ) (آل عمران :133) ، ( فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ) (الأنبياء:94).

                  إن خوض غمار الحياة بهذه الروح هو أحد الأسس التي ستمكن المسـلمين اليوم من التخلص من الغثائية الراهنة، معيدة الفاعلية والتمكين إليهم، وهو بالتالي من أسس التفكير الموضوعي الذي يحترم ذاته ويعرف قدره، ولا يخـوض في أي مجال إلا بعلم، ويسـتعين بمن يعلم إذا كان لا يعلم. [ ص: 162 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية