الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  التفكير الموضوعي في الإسلام

                  الدكتور / فؤاد البنا

                  4- توظيف الرسول صلى الله عليه وسلم للمواهب واستفادته من الآخرين:

                  لقد كان التحول الذي أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم في حياة العرب خصوصا والبشرية عموما، منضبطا بالأسباب، أي سنن الله ونواميسه، فاكتسب عمله وأصحابه ذلك التأثير المدوي وتلك الفاعلية العجيبة. ومن تلك الأسباب انحيازه صلى الله عليه وسلم الدائم إلى الأفكار والقيم وليس إلى العواطف والتقاليد والأشخاص، حيث عمل في هذا الصدد على اكتشاف مواهب أصحابه وتوظيفها في أماكنها المناسبة لها فأتت أطيب الثمر، وكان دائب الاستفادة من خبرات الآخرين مهما كانوا، سواء كان ذلك في المعاني أو في الماديات. [ ص: 169 ]

                  أ- اكتشاف المواهب واحترام التخصصات:

                  عن عمران بن حصين، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كل يعمـل لما خـلق له أو لما يسر له ) [1] . وفي رواية ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) [2] .

                  وفي خبرة الرسـول صلى الله عليه وسلم بالناس عامة ودرايته بأصحاب المواهب والقدرات الفاعلة والمؤثرة وندرتـهم بين الناس، قال صلى الله عليه وسلم : ( الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة ) [3] . وعن اكتشـاف هـذه المواهب والقدرات واستثمارها في عملية بناء المجتمع بعد بنائها، قال صلى الله عليه وسلم : ( الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) [4] . وهي دعوة لاكتشـاف وتربية أصحـاب المواهب والقدرات المميزة والفاعلة داخل المجتمعات.

                  وفي تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، اكتشف مواهبهم، واضعا كل واحد منهم في المجال الذي يناسب تفوقه وتميزه. عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام [ ص: 170 ] معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ) [5] .

                  وبسبب هذه المعرفة الدقيقة بمواهب وخصائص أصحابه فقد وظف كل شخص في المكان الذي يناسبه، فكان كل واحد منهم لبنة قوية في صرح الأمة المتين، الذي صار كما وصفه القرآن: ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ... ) (الفتح:29).

                  وعلى سـبيل المثال لما كان اليمنيون أهل علم مقارنة ببقية مناطق العـرب آنـذاك، حيث كانوا أهـل كـتاب، إذ يدينـون إما باليهودية أو بالنصـرانية، فقـد أرسـل إليهـم أعلم الصحابة كمعلم لهم وهو معاذ بن جبل، رضي الله عنه، الذي أرسله إلى وسط اليمن (في الجند)، وأرسل إلى الشمال في نجران الإمام علي بن أبي طـالب، رضـي الله عنه، وأرسـل إلى الغرب (زبيد وتهامـة) أبا موسى الأشعري، رضي الله عنه، وهو أحد قراء الصحابة الكبار وأحد علمائهم. وكان قبل ذلك قد أرسل مصعب بن عمير، رضي الله عنه، لتعليم مسلمي المدينة المنورة، ففتحها بالدعوة والتعليم.

                  وفي ذات السياق، اختار بلالا رضي الله عنه، للأذان؛ لأنه أندى الصحابة صوتا، واختار ثابت بن قيس بن شماس، رضي الله عنه، خطيبا؛ [ ص: 171 ] لأنه جهـوري الصـوت بليـغ العبارة، واختار أصحاب البداهة والفصاحة والوسامة لكي يكونوا رسلـه إلى الملـوك والأمراء كدحية الكلبي وعبد الله بن حذافة السهمي، وعمرو بن العاص، وعمرو بن أمية الضمـري، وحـاطب بن أبي بلتعـة، رضي الله عنهم. واختار لقيادة الكتائب والجيوش خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وأسامة بن زيد، رضي الله عنهم؛ لأنهم كانوا أكثر الصحابة قدرة على القتال وأملكهم لفنونه... وهكذا.

                  وعنـدما كان بعض الصحـابة يحـاولون اختيار أماكن أو وظائف لا تناسب ملكاتهم وقدراتهم، كان يتصدى لهذا الأمر بالتي هي أحسن، ومن هؤلاء أبو ذر رضي الله عنه ، فقـد ورد في كتب الحـديث أنه قال: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ فضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بيده على منكبه، وقال: ( يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ) [6] .

                  ويبدو أن ضعف أبي ذر ارتبط بعاطفيته ومثاليته الزائدة، حتى أنه رضي الله عنه عندما رأى الرفاهية في بلاد الشام أيام خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه حرض الناس ضد واليها معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، فاشتكاه معاوية إلى عثمان، وطلب منه الخليفة أن يقيم في الربدة خوفا على صفوف المسلمين [ ص: 172 ] من التفرق، ليموت بعد ذلك وحيدا، بعد أن عاش في بعض حياته وحيدا بسبب هذه المثالية الصارمة.

                  ب- الاستفادة من الآخرين:

                  من يقرأ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته سيلاحظ كيف استفاد الرسول من الآخرين في بناء دعوته ودولته، بل حتى في بناء الفرد المسلم، وهذه الاستفادة تشمل الماديات والمعنويات، أو ما يسمى اليوم بالجوانب المدنية والجوانب الثقافية.

                  وتسير هذه الاستفادة في اتجاهين:

                  -الاتجاه الرأسي: ويشمل الاستفادة ممن سبق المسلمين من أمم وحضارات، سواء كانت الاستفادة مادية أو معنوية.

                  عندما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته الإسلامية كنقيض للوثنية في قضية التوحيد، لم يكن الإسلام نقيضا للجاهلية في كل شيء، ولم يأت لاستئصال كل ما أثر عن الجاهليين، بل جاء بغربال، استبعد ما هو سيء وأبقى ما هو حسن، واستفاد منه، ففي مجـال الأخـلاق أثر عن الرسـول صلى الله عليه وسلم قوله: ( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ) [7] . ومما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلاق الجاهلية - مثلا- نصرة المظلوم، فقد حضر وهو صغير ما سمي بحلف الفضول الذي تم التعاهد فيه على رد المظالم ونصرة المظلوم، وقال فيه [ ص: 173 ] صلى الله عليه وسلم : "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" [8] .

                  وهناك صورة أخرى من صور الاستفادة من (الآخر) في الاتجاه الرأسي وهي الاستفادة السلبية، من خلال دراسة السلبيات التي وقعت فيها الحضارات، والعلل التي وقع فيها التدين عند أهل الكتاب، وتحذير المسلمين من الوقوع فيها، حتى لا تتحقق النتائج التي ظهرت في حياة أولئك الناس، وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا السياق، منها:

                  - ( وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ) [9] .

                  - ( ما نهيتـكم عنه فاجتنبـوه، ومـا أمرتكم به فـافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) [10] .

                  - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رجلا قرأ آية، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه [ ص: 174 ] الكراهية، وقال: ( كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ) [11] .

                  - عن عائشة، رضي الله عنها، أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سـرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسـول صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسـامة بن زيد، حـب رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، فكـلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتشفـع في حـد من حـدود الله؟! ) ثم قـام فاختطب ثم قال: ( إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشـريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) [12] .

                  - عن حـميد بن عبـد الرحـمن بن عـوف أنـه سمـع معـاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، عام حج، وهو على المنبر وهو يقول، وتناول قصة من شعر كانت بيد حرسي: أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هـذه ويقول: ( إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم ) [13] .

                  -الاتجاه الأفقي: الاستفادة ممن عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم من غير المسلمين، سواء كانوا مشركين أو كتابيين، وسواء كانت الفائدة مادية أو معنوية، فردية أو جماعية . ومما ثبت في هذا الأمر: [ ص: 175 ]

                  - اسـتفادة الرسـول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصـديق رضي الله عنه من خبرة عبد الله ابن أريقط الليثي بالطريق عند هجرتهما من مكة إلى المدينة، رغم بقائه على الشرك آنذاك[14] .

                  - استـفـادة الرسـول صلى الله عليه وسلم من اللغـة السـريانية، عندمـا أمر زيد ابن ثابت رضي الله عنه بتعلم هذه اللغة وأن يكون مترجمه فيها، وظهور بوادر الترجمة التي كانت إحـدى آليات المسـلمين للتفاعل مع الحضـارات الأخرى والاستفادة منها [15] .

                  - استفادة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعض الثياب الأجنبية، التي كانت تصنع في بلاد فارس أو الروم أو الشام أو مصر أو حتى اليمن قبل أن يعتنق اليمنيون الإسلام، مثل لبسه صلى الله عليه وسلم لجبة رومية كانت ضيقة الأكمام [16] . ومثل ذلك حضور الخبرة الرومية في النجارة، عن طريق صهيب الرومي، رضي الله عنه، ومنبره صلى الله عليه وسلم الذي صار يخطب فوقه، وكذلك حضور الخبرة الفارسية في حفر الخندق حول المدينة المنورة كوسيلة دفاعية أمام جحافل الغزاة من الأحزاب، بمشورة من سلمان الفارسي، رضي الله عنه. [ ص: 176 ]

                  - بعض الثمار الصحية والاجتماعية التي استفادها الرسول صلى الله عليه وسلم من استقرائه لتجارب وخبرات الآخرين، مثل العزل عند الجماع.

                  عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم ) [17] .

                  - استفادة الرسول صلى الله عليه وسلم من عدل أصحمة النجاشي ملك الحبشة، بإرسـال دفعتين من أصحـابه للجوء في بلاده، عندما اشتدت أذية المشركين لهم [18] .

                  - استفادة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من قوانين وعادات المجتمع المشرك، ومن ذلك دخول عدد منهم في جوار وحماية بعض كبراء قريش المشركين [19] .

                  - استفادة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من الخبرة الزراعية لليهود عند فتح خيبر [20] . [ ص: 177 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية