الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  4- تجفيف منابع سوء الظن:

                  لسوء الظن منابع كثيرة، أهمها الجهل والقراءة الجزئية للنصوص، ولذلك فإن الرؤية الجزئية كثيرا ما تساهم في تمزيق المجتمع المسلم [1] ؛ لأنها تثمر عددا من الآفات، منها سوء الظن.

                  ولتجفيف منابع سوء الظن حرم الإسلام تتبع العورات والتجسس والغيبة والنميمة، قال صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ) [2] ؛ وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) (الحجرات:12).

                  ونهى الإسلام عن اللدد في الخصومة، فهي ليست من صفات المسلم: ( وتنذر به قوما لدا ) (مريم:97) ، والألد هو الشديد الخصومة، قال تعالى عن المشـركين: ( بل هم قوم خصمون ) (الزخرف:58)، وعجب الله نبيه من هـذا الصنف من النـاس فقال: ( ومن الناس من يعجبك قوله [ ص: 95 ] في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ) (البقرة:204) [3] .

                  والفجـور في الخصـومة جعله النبي صلى الله عليه وسلم ربع النفاق كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خـصلة منهـن كانت فيه خصلة مـن النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) [4] .

                  ومن منابع سوء الظن المثالية الزائدة التي تميل إلى قولبة الناس وافتراض أنهم لابد أن يكونوا جميعا كالصحابة الكرام، وهنا عمل الإسلام على ربط المسلم بواقعه، وتحدث عن طبائع النفس البشرية في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، من القنوط والكنود والكفران والطمع والجزع وحب المال والطغيان وحب الدنيا وحب النفس، ووضح الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن القليل هم من ينجحون في معركة الابتلاء والعبودية: ( وقليل من عبادي الشكور ) (سبأ:13) ، ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) (يوسف:103) ، ( وقليل ما هم ) (ص:24)، ويقاس على الإيمان والكفر بقية الصفات؛ لأنها أولى من ذلك في الندرة، وخاصة ما يتعلق بصفات الفاعلية المؤثرة فإنها نادرة الوجود، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة ) [5] . [ ص: 96 ]

                  ومن أجل تجفيف منابع سوء الظن وتغليب حسن الظن، حث الإسلام على التخلي عن الذاتية ومحاصرة الأنانية، بطرق عديدة يشتمل عليها منهج العبودية الشامل، وخاصة ما يتعلق بإقامة الشعائر التعبدية، ولكننا نشير هنا إلى طريقـة إجرائية وهي وضع الإنسـان نفسـه مكان الآخرين فيحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه، قال تعالى: ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) (النساء:9) ، ولذلك روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: "قال موسى حين كلمه ربه: أي رب، أي عبادك أحب إليك؟ قال: أكثرهم لي ذكرا. قال: أي رب فأي عبادك أحكم؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس" [6] . ومعلوم أن الحكمة هي وضع الشيء في محله، وهذه هي قمة الموضوعية.

                  ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم في قمة الحكمة والموضوعية، فقد كان يتعوذ مما لا يحبه لنفسه ولا للناس، فقـال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي ) [7] . ومن حكم الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه : "كفى أدبا لنفسك ما كرهته لغيرك"! حيث العلاقة وثيقة بين (الذات) و (الآخر)، والتفاعل بينهما قائم بذات المعايير الثابتة! [ ص: 97 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية