الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  3- احتكار الحقيقة إضعاف لشوكة المسلمين:

                  من المعلوم أن أول وأهم انقسام في أمة الإسلام، كان ما حدث بعد استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه من انقسام المسلمين إلى قسمين رئيسين: أهل العراق وأهل الشام.

                  وقد حدثت ملابسات عدة وظهرت عوامل متفرقة، تضافرت كلها على إنشاب الفتنة بين الطرفين مما أدى إلى اشتباك الجيشين في موقعة "صفين" (سنة37هـ) . ورغم وجود عدد كبير من حديثي العهد بالإسلام وخاصة الأعاجم، ممن ساهموا في إذكاء هذه الحرب، معتقدين أنهم أصحاب الصواب الكامل وغيرهم على خطأ كامل، إلا أن الصحابة الذين تشربوا الإسلام من منابعه الصافية وتخرجوا من مدرسة المصطفى صلى الله عليه وسلم كانوا يعذرون بعضهم بعضا، مبقين الجميع في ذات دائرة الإسلام، لعلمهم أن المخطئ في اجتهاده إنما أخطأ في التأويل. وانطلق الصحابة من القرآن الذي يقول: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على [ ص: 83 ] الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) ( الحجرات: 9)، حيث أثبت الله الإيمان لكلا الطـائفتين المتقـاتلتين في مثل هذه الظروف التي يتشابه فيها البقر، ويكون مع كل طرف جزء من الحقيقة!

                  وعلى سبيل المثال، تروي بعض الكتب أن الجيشين أثناء اندلاع معركة صفين ذهبا لأداء الصلاة، وعند خروج الإمام علي، رضي الله عنه، من الصلاة، سأله أحد جنوده: ما تقول في قتلانا وقتلاهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: "من قتل منا ومنهم يريد وجه الله والدار الآخرة دخل الجنة" [1] . وفي المساء خرج الإمام علي، رضي الله عنه، إلى ساحة القتال فنظر إلى أهل الشام فدعا ربه قائلا: اللهم اغفر لي ولهم [2] . وأثناء احتدام ذات المعركة سمع عمار بن ياسر رضي الله عنه رجلا بجواره يقول: كفر أهل الشام، فنهاه عمار عن ذلك، وقال: إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة [3] . [ ص: 84 ]

                  ولقد قامت دراسات وبحوث مستفيضة حول معركة صفين، ورصدت المعاملات الكريمة بين الطرفين، ووثقت ذلك بمراجعه ومصادره [4] .

                  وهكذا، نلاحظ أن الإمام علي وكبار الصحابة، رضي الله عنهم، الذين اشتركوا في هذه الأحـداث، ورغـم ظن كل طرف أنه على الحق، لم يدع أي منهم امتلاكه للحقيقة الكاملة، وبالتالي لم يسفه الطرف الآخر، فضلا عن أن يكفره ويخرجه من دائرة الإسلام.

                  ولم يكن هذا الموقف للإمام علي، رضي الله عنه، حكرا على حربه مع أهل الشام وهم لم يكفروه، بل كان هو ذات الموقف مع الخوارج الذين ادعوا أنهم على الصواب الكامل لدرجة أنهم كفروا الإمام علي، ومع ذلك ظل يعتبرهم من جماعة المسلمين، ولم يرفع السلاح في وجههم إلا عندما حملوه ضد المسلمين، وقتلوا أحد الصحابة وبقروا بطن زوجته، وفي أثناء المعارك بينه وبينهم سئل عن الخوارج: أكفار هم؟ فقال: من الكفر فروا. وقال عنهم بأنهم "إخواننا بغوا علينا"!

                  ونستطيع الملاحظة بوضوح أن بعد الشقة بين المسلمين المحدثين آنذاك وبين فقه القرآن، ساعد على ظهور كثير من القيم المنافيـة للموضوعية، كما حدث من صغار المقاتلين في جيشي معاوية وعلي، رضي الله عنهما، وكما حدث بعد ذلك من بعض الفرق، الذين ابتعدوا كثيرا عن مفردات [ ص: 85 ] الموضوعية واحتكروا فهم الإسلام وادعوا أنهم وحدهم من يمتلك الحقيقة المطلقة، ومن ثم نسجوا حول قادتهم وأئمتهم قصصا خيالية، ونسبوا إليهم بعض ما يتنافى مع الفكرة الإسلامية وما يتناقض مع مقاصد الدين.

                  وبسبب غياب التفكير الموضوعي لم يقتصر ظهور المبالغات على طوائف وفرق بعينها وإنـما انتقل الأمر إلى كثير من التيارات، حيث ظهر من بالغ في حب أئمة مذهبه، ومن بالغ في كره أئمة المذاهب الأخرى، ومن تعصب للمذاهب مدعيا أن كل ما فيها صـواب؛ وعمل كثير من المتعصبين على تأويل النصوص لتتفق مع ما نسب إلى أئمة بعض المذاهب في بعض المسائل.

                  وبالجملة، فإن احتكار بعض عوام المسلمين في ذلك الزمن للحقيقة المطلقة، ساهم في تفريق الدين وتمزيق المسلمين إلى شيع متنابذة، وصار هذا الانحراف مدماكا للتعصب والتشيع الذي ساد في عصور الضعف والتخلف والانحطاط، بل وانحاز إليه بعض علماء المسلمين من المتأخرين الذين اعتادوا على إطلاق العواطف أكثر من إعمال التفكير، وعلى حفظ النصوص أكثر من فهمها! [ ص: 86 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية