الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  2- الرسالة فكرة لا شخص:

                  الأنبياء والمرسلون كلهم كانوا بشرا يتصفون بكل ما يتصف به البشر من صفات في الأصل، لكن الله اصطفاهم واجتباهم لحمل هذه الرسالة، وعصمهم في كل ما يخرم في تبليغ الرسالة وأوجب على الناس طاعتهم واحترامهم، ليس لذواتهم ولكن لما يحملون من أفكار هادية وأنوار مضيئة وتعاليم سامية فيها صلاح العباد في المعاش والمعاد.

                  وبسبب طبيعة الشخصنة التي جبل عليها العقل العربي قبل مجيء الإسلام، ونظرا لما شاع من علل التدين عند الأمم السابقة، ومن ذلك اتجاه التقدير والتقديس من الدعوة إلى الداعية ومن الرسالة إلى الرسول، فقد وردت آيات كثيرة تلفت أنظار المسلمين إلى قداسة الرسالة لا الرسول، مربية إياهم على هـذه الحقيقـة بطـرق متعـددة وفي مناسبات وسياقات مختلفة.

                  ومن ذلك تأكيد (عبودية) الرسول صلى الله عليه وسلم لله تعالى، فقد ورد الخطاب المباشر له صلى الله عليه وسلم من قبل ربه بصيغة فعل الأمر ( أعبد ) خمس مرات في القرآن، وجاء لفظ العبودية على لسانه صلى الله عليه وسلم ( أعبد ) اثنتي عشرة مرة، ووصفه الله بالعبد عشر مرات في القرآن كلها في حالات مرتبطة بالتشريف [ ص: 45 ] والتكريم مثل إنزال القرآن: ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) (الفرقان:1) ، والإسراء: ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) (الإسراء:1 )، حتى لا يتحول هذا التكريم في أذهان المسلمين إلى نوع من التقديس، كما فعل أصحاب بعض الديانات السابقة بأنبيائهم.

                  وظل القرآن يعلم محمدا صلى الله عليه وسلم كيف يظهر بشريته المتصفة بالضعف والنسبية والعجز والفقر أمام ربه تعالى: ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي ... ) (الأنعام:50 )، وقال تعالى: ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) (يونس:15). ويمكن الوقوف أمام آية أكثر صراحة ووضوحا في قضية لفت الأنظار إلى الرسالة لا إلى الرسول، وهي قوله تعالى: ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) (آل عمران :144)، بمعنى أن الرسالة، لا الرسول، هي محور الارتكاز والدوران والتمحور. [ ص: 46 ]

                  وفي سبب نزول هذه الآية أخرج ابن المنذر عن عمر، رضي الله عنه، قال: ( تفرقنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فصعدت الجبل، فسمعت يهود تقول: قتل محمد، فقلت: لا أسمع أحدا يقول قتل محمد إلا ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون إليه، فنزلت الآية: ( وما محمد إلا رسول ) ) وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قـال: ( لما أصابهم يوم أحد ما أصابهم من القرح وتداعوا نبي الله، قالوا: قد قتل، فقال أناس: لو كان نبيا ما قتل، وقال أناس: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به، فأنزل الله ( وما محمد إلا رسول ) ) [1] .

                  وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يربي أصحابه على هذه القيمة، بل ويقاوم كل محاولة لإطرائه، مما يمكن أن يكون طريقا سالكا إلى تقديسه وشخصنة دعوته ولو على المدى البعيد، فقد نهى عن تعظيمه والقيام له، وكان شديد التواضع في كل شيء حتى في لبسه ومشيته وأكله وشربه بل وفي جلسته، حيث اشتهر عنه جلوسه كما كان يجلس العبيد وأكله كما كان يأكل العبيد، وكان صلى الله عليه وسلم دائم التنديد بمظـاهر الشخصنة عند بني إسرائيل لأنبيائهم بما فيها اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. [ ص: 47 ]

                  ومما أثر عنه في هذا السياق، قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده ) [2] .

                  وإمعانا في إبراز بشريته صلى الله عليه وسلم فقد كان يستشير أصحابه في كل الأمور التي لا وحي فيها، وكان يستجيب لشوراهم حتى لو جاء الرأي من صغار الصحابة، كما حدث من الحباب بن المنذر، رضي الله عنه، في مسألة توزيع الجيش يوم بدر (سنة2هـ) ، ولو خالفت هذه الشورى قناعته الشخصية، كما حدث في أمر الخروج لملاقاة قريش في موقعة أحد (سنة3هـ).

                  وبموجب بشريته واجتهاداته الفكرية عند عدم وجود النص، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد فأخطأ مرات عدة، لينزل القرآن يسدده، مثلما حدث من أخذ للفدية من أسرى (بدر) المشركين، ومن إذن للمنافقين دون وجود أعذار حقيقية، ومن إعراضه عن عبدالله بن أم مكتوم، رضي الله عنه، وإقباله على المشركين، كما في مطلع سورة "عبس"، ومن تحريمه لبعض ما أحل الله له، إما جاريته مارية القبطية أو العسل إرضاء لبعض زوجاته، كما سجلت مطلع سورة التحريم ذلك العتاب الإلهي [3] . [ ص: 48 ]

                  ولتربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحـابه على الدوران مع الإسـلام حيث دار، لا مع شخصه هو، فقد ظهرت آثار هذه التربية على صحابته وخاصة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، حتى أن موته صلى الله عليه وسلم لم يقض على الأمة رغم تكالب الأعداء عليها، وارتداد كثير من الشخصانيين بمجرد سماعهم بموته، وقد كان موقف أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قويا يطاول الجبال في شدتها ورسوخها، حيث وقف كالطود الأشم في وسط المسلمين، تاليا قوله تعالى: ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) (آل عمران :144)، ثم قال: "أيها الناس، من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات" [4] .

                  وقد اتسم الصحابة عموما بالارتباط بالفكرة الإسلامية لا بخلفائهم وقوادهم، وعندما كانت تظهر بعض الحـالات المرضية الشاذة من قبل حديثي الإسلام، كان الكبار يتصدون لها، مثلما فعل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عندما عزل عن قيادة جيش المسلمين في الشام خالد بن الوليد، رضي الله عنه، بسبب ارتباط بعض المسلمين به شخصيا، مرجعين النصر إلى عبقريته العسكرية [5] . [ ص: 49 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية