6- "لا أدري" قمة العلم والإنصاف:

من خلال السباحة الفكرية التي مررنا فيها على نماذج من أقوال ومواقف بعض الصحابة الكبار وكبار التابعين والأئمة والعلماء نستطيع الجزم بأن الاعتراف بالجهل من خصائص العلماء الأصلاء، بينما أنصاف وأرباع وأعشار العلماء لا يتورعون أبدا عن إبداء الآراء وإطلاق الفتاوى في كل مجالات وميادين الحياة، في الفكر والسياسة والفقه والاقتصاد والثقافة والأدب والفن، وهلم جرا.

يقول د. القرضاوي: "والحق أن نصف العلم يضر أكثر من الجهل الكلي، مع الاعتراف بأن هذا جهل بسيط وهذا جهل مركب، وهو جاهل من حيث لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري" ^[1] . وأكد الشيخ حسن أيوب هذا المعنى بقوله: "لذلك أرى مع من رأى أن نصف العلم يكون أحيانا أضر من الجهل المطلق؛ لأن الجاهل يؤمن بجهل نفسه فيسأل، وهذا يغتر ببضاعته القليلة فيضر نفسه وغيره" ^[2] .

وقد ثبت تاريخيا وواقعيا أن "كثرة" الإفتاء تدل على "قلة" العلم. قال القاضي سحنون (ت240هـ): "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه" ^[3] . [ ص: 129 ]

وقال الشاعر العربي:

مثل الجاهل في إعجـابه مثل الناظر من أعـلى الجبل     يحسب الناس صغارا وهو
في أعين الناس صغيرا لم يزل.

وقال الإمام فخر الدين الرازي (ت 606هـ-1210م):

العلم للرحمن جل جلاله     وسواه في جهالاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم؟ وإنما     يسعى ليعلم أنه لا يعلم

^[4]

وقال الإمام الشافعي شعرا في ذات السياق:

كلما أدبني الدهـ     ـر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علما     زادني علـما بجهـلي.

هذا لأن العلم الحقيقي يورث الخشية من الله، والورع عن محارمه، ومنها الخوف الشديد من القول عليه بغير علم.

عن مسروق قال: "كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه" ^[5] ؛ وقد اشتـهرت مقولة الإمام سفيان الثوري: "إنما العلم الخشية"، انطلاقا من قوله تعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28 ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر:28). [ ص: 130 ]

يقول ابن الجوزي: "رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته ومقصوده، وليس العلم صور الألفاظ، إنما المقصود فهم المراد منه، وذلك يورث الخشية والخوف، ويرى المنة للمنعم بالعلم وقوة الحجة على المتعلم" ^[6] .

وعن يحيى بن جعدة قال: كان ناس يستمعون حديثه، فيقول: "هذا خير لكم وشر لي" ^[7] .

وعن الحسن قال: "إن كان الرجل ليجلس مع القوم فيرون أن به عيا وما به من عي، إنه لفقيه مسلم" ^[8] .

ولما كان الإمام الشافعي أحد القمم العالية جدا في سماء العلم على مستوى المسلمين وعلى مستوى العالم كله، فقد اعترف بجهله بعدد من المسائل، وعقب على ذلك الإمام الرازي في المحصول فقال: "هذا يدل على كمال منصبه في العلم والدين. أما العلم، فلأن كل من كان أغوص نظرا، وأدق فكرا، وأكثر إحاطة بالأصول والفروع، وأتم وقوفا على شرائط الأدلة، كانت الإشكالات عنده أكثر. أما المصر على الوجه الواحد- طول عمره- في المباحث الظنية، بحيث لا يتردد فيه، فذلك لا يكون إلا من جمود [ ص: 131 ] الطبع، وقلة الفطنة، وكلال القريحة، وعدم الوقوف على شرائط الأدلة والاعتراضات" ^[9] .

ونختتم هذه الفقرة بكلام للدكتور يوسف القرضاوي حول أزمة أمتنا المعاصرة ذات الصلة بموضوعنا هذا، حيث يقول: "ولقد ابتلينا في عصرنا ببعض المجترئين، الذين استباحوا حمى الشريعة، وأمسوا يحللون ويحرمون، ويوجبون ويسقطون، ويبدعون ويفسقون، بل يكفرون، لمجرد أنهم قرؤوا بعض الكتب لبعض العلماء وفي بعض العلوم، ولم يعيشوا في جـو العلم، ولا طلبوه من شيوخه، ولم يتقنوا أدواته، ولم يملكوا مفاتيحه، ومع هذا أفتوا في أعوص المسائل، وحكموا في أغمض القضايا، واعترضوا على أكابر العلماء، وطعنوا في أئمة المذاهب، وساووا رؤوسهم برؤوس الصحابة والتابعين، وقال قائلهم: هم رجال ونحن رجال!. وهذا هو الذي يؤذن بضياع الدين، وخراب الدنيا" ^[10] . [ ص: 132 ]

6- "لا أدري" قمة العلم والإنصاف:

من خلال السباحة الفكرية التي مررنا فيها على نماذج من أقوال ومواقف بعض الصحابة الكبار وكبار التابعين والأئمة والعلماء نستطيع الجزم بأن الاعتراف بالجهل من خصائص العلماء الأصلاء، بينما أنصاف وأرباع وأعشار العلماء لا يتورعون أبدًا عن إبداء الآراء وإطلاق الفتاوى في كل مجالات وميادين الحياة، في الفكر والسياسة والفقه والاقتصاد والثقافة والأدب والفن، وهلم جرًا.

يقول د. القرضاوي: "والحق أن نصف العلم يضر أكثر من الجهل الكلي، مع الاعتراف بأن هذا جهل بسيط وهذا جهل مركب، وهو جاهل من حيث لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري" ^[1] . وأكد الشيخ حسن أيوب هذا المعنى بقوله: "لذلك أرى مع من رأى أن نصف العلم يكون أحيانًا أضر من الجهل المطلق؛ لأن الجاهل يؤمن بجهل نفسه فيسأل، وهذا يغتر ببضاعته القليلة فيضر نفسه وغيره" ^[2] .

وقد ثبت تاريخيًا وواقعيًا أن "كثرة" الإفتاء تدل على "قلة" العلم. قال القاضي سحنون (ت240هـ): "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه" ^[3] . [ ص: 129 ]

وقال الشاعر العربي:

مثل الجاهل في إعجـابه مثل الناظر من أعـلى الجبل     يحسب الناس صغارًا وهو
في أعين الناس صغيرًا لم يزل.

وقال الإمام فخر الدين الرازي (ت 606هـ-1210م):

العلم للرحمن جل جلاله     وسواه في جهالاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم؟ وإنما     يسعى ليعلم أنه لا يعلم

^[4]

وقال الإمام الشافعي شعرًا في ذات السياق:

كلما أدبني الدهـ     ـر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا     زادني علـمًا بجهـلي.

هذا لأن العلم الحقيقي يورث الخشية من الله، والورع عن محارمه، ومنها الخوف الشديد من القول عليه بغير علم.

عن مسروق قال: "كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ" ^[5] ؛ وقد اشتـهرت مقولة الإمام سفيان الثوري: "إنما العلم الخشية"، انطلاقًا من قوله تعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28 ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (فاطر:28). [ ص: 130 ]

يقول ابن الجوزي: "رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته ومقصوده، وليس العلم صور الألفاظ، إنما المقصود فهم المراد منه، وذلك يورث الخشية والخوف، ويرى المنة للمنعم بالعلم وقوة الحجة على المتعلم" ^[6] .

وعن يحيى بن جعدة قال: كان ناس يستمعون حديثه، فيقول: "هذا خير لكم وشر لي" ^[7] .

وعن الحسن قال: "إن كان الرجل ليجلس مع القوم فيرون أن به عيًّا وما به من عيّ، إنه لفقيه مسلم" ^[8] .

ولما كان الإمام الشافعي أحد القمم العالية جدًا في سماء العلم على مستوى المسلمين وعلى مستوى العالم كله، فقد اعترف بجهله بعدد من المسائل، وعقب على ذلك الإمام الرازي في المحصول فقال: "هذا يدل على كمال منصبه في العلم والدين. أما العلم، فلأن كل من كان أغوص نظرًا، وأدق فكرًا، وأكثر إحاطة بالأصول والفروع، وأتم وقوفًا على شرائط الأدلة، كانت الإشكالات عنده أكثر. أما المصرّ على الوجه الواحد- طول عمره- في المباحث الظنية، بحيث لا يتردد فيه، فذلك لا يكون إلا من جمود [ ص: 131 ] الطبع، وقلة الفطنة، وكلال القريحة، وعدم الوقوف على شرائط الأدلة والاعتراضات" ^[9] .

ونختتم هذه الفقرة بكلام للدكتور يوسف القرضاوي حول أزمة أمتنا المعاصرة ذات الصلة بموضوعنا هذا، حيث يقول: "ولقد ابتلينا في عصرنا ببعض المجترئين، الذين استباحوا حمى الشريعة، وأمسوا يحلِّلون ويحرمون، ويوجبون ويسقطون، ويُبدِّعون ويُفسِّقون، بل يُكفِّرون، لمجرد أنهم قرؤوا بعض الكتب لبعض العلماء وفي بعض العلوم، ولم يعيشوا في جـو العلم، ولا طلبوه من شيوخه، ولم يتقنوا أدواته، ولم يملكوا مفاتيحه، ومع هذا أفتوا في أعوص المسائل، وحكموا في أغمض القضايا، واعترضوا على أكابر العلماء، وطعنوا في أئمة المذاهب، وساووا رؤوسهم برؤوس الصحابة والتابعين، وقال قائلهم: هم رجال ونحن رجال!. وهذا هو الذي يؤذن بضياع الدين، وخراب الدنيا" ^[10] . [ ص: 132 ]