3- تقدير الخبرات والاستفادة من أصحاب التخصصات:
الخبرة من الناحية اللغوية تأتي بمعان عدة، منها: المعرفة ببواطن الأمور، والأرض اللينة، والأرض ذات الشجر، والمعرفة بالأحوال [1] .
والخبرة تأتي بمعنى إدراك الأمور الدقيقة والخفية، من خلال عمق المعرفة وكثرة التجارب في مجال ما من مجالات الحياة، ولذلك لا يقال لفلان: إنه خبير مهما كان عمله، ما لم يضف إلى ذلك غزارة التجارب التي عايشها في مجال عمله أو تخصصه.
وأهل الخـبرة هم أصحـاب الدراية، في أي مجال كانت خبرتهم، ولا يمكن أن يجاريهم أحد في تخصصاتهم، ولذلك قال تعالى: ( ولا ينبئك مثل خبير ) (فاطر:14).
وعندما تحدث الله تعالى عن استوائه على العرش أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل عن ذلك أهل الخبرة فقال: ( ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا ) (الفرقان:59) ، فإذا كان هذا في أمر مرتبط بالعقيدة، والمأمور هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان الوحي بعلم الغيب يتنـزل عليه، فكيف بالمسلمين؟ وكيف إذا كان الأمر متعلقا بشؤون الدنيا؟! [ ص: 163 ]
لقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل أهل الدراية والخبرة؛ لأنهم أهل كتاب، في مواضع عديدة غير الآية السابقة، قال تعالى: ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) (يونس:94) ، وقال: ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ) (الزخرف:45) ، وقال: ( سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ) (البقرة:211).
قال الفخـر الرازي: يعـني سل هـؤلاء الحـاضرين - من اليهود- أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها، لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب، كما وقع أولئك المتقدمون فيه. والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم كما قال تعالى: ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) (الحشر:2) ، وقال تعالى: ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) (يوسف:111) [2] .
هذه الآية تمثل دعوة للاستفادة من الآخرين، من خلال إعمال العقل تفكرا في تاريخهم، لاستخراج الدروس من قصصهم، والاعتبار والاتعاظ بها، والمعني بالاستفادة هنا هم المسلمون وليسوا اليهود المعاصرين للقرآن. [ ص: 164 ]
ومرة أخرى أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يستفيد من النبوات السابقة له، رغم أنه خاتم الأنبياء وأعظمهم، ورغم أن رسالته شملت كل ما في الرسائل السابقة من أبعاد، وجمعت كل ما فيها من خيرات، ورغم أن كتابه مهيمن على كتبهم قبل أن تحرف، فكيف وقد حرفت؟ قال تعالى: ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [3] .
وقد أورد الشيخ محمد عبده هذه الآية عند تفسيره لقوله تعالى: ( اهدنا الصراط المستقيم ) (الفاتحة:6) ، مؤكدا أهمية استحضار التاريخ في فهم هداية القرآن، وموردا لقوله تعالى: ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ) (الرعد:6 ) [4] .
ومثلما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستفادة من معارف وخبرات الآخرين "أهل الكتاب"، فقد أمر تعالى المسلمين بمثل ذلك، وجعل هذا السؤال عند عدم وجود العلم واجبا، وأورد هذا الأمر بصيغة العموم ، ( أهل الذكر ) قال تعالى: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (النحل:43) ، وكرر هذا الأمر مرة أخرى بقوله تعالى: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا [ ص: 165 ] تعلمون ) (الأنبياء:7) [5] . وجاء التكرار بنفس الصيغـة للأهمية البالغة لهذا الأمر في التفـاعل الفـكري والعلمي بين المسلمين، شخصيات وتيارات وجماعات، وفي التفاعل الحضاري بين المسلمين وغيرهم من الحضارات الأخرى، وخاصة الحضارة الغربية الآن، لأنها أكثر الحضارات قوة وتقدما في هذا العصر، ولا يمكن أن يصل المسـلمون إلى القمة في كل ما يحقق للإنسـان القوة والعزة والتقـدم والرفـاه والتمكين بدون الاستفادة من إنجازات واختراعات وخبرات ومعارف هذه الحضارة الضخمة، بأخذ كل جميل وصائب وحسن مما يحقق مقاصد الإسـلام وعمارة الأرض وحقوق الناس، وتجنـب كل قبيح ومنـكر وسيء في هـذه الحضارة، وهي ثمرة أخرى؛ لأن تجارب تلك الحضارة، في جانب منها، أثبتت ضررها على الأفراد وإفسادها للمجتمعـات، ومن ثم لا مجال للمعتبر بـها في أن يجرب مرة أخـرى، كما جرب أولئك، وإنما يبدأ من حيث انتهى الآخرون.
وقد وصف الله عباده المهتدين بخصائصهم الرئيسة، فقال تعالى: ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ) (الزمر:17-18). [ ص: 166 ]
فمن صفات عباد الله المهتدين، أصحاب العقول النيرة، أنهم في تفاعلهم مع الآخرين مهما كانوا فإنهم يمثلون قمة الموضوعية، إذ يستفيدون من كل نافع من حيث جاء؛ لأن نظرهم لا يتجاوز الموضوع إلى واضعه ولا المقول إلى قائله، ولا المعمول إلى عامله، ولا المصنوع إلى صانعه، وفي ذات الوقت فإنهم يمتلكون موازين ومعايير يستطيعون بواسطتها تمييز الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، والنافع من الضار، والثمين من الغث، بل إن هذه الموازين تمكنهم من التمييز بين أنواع الصواب وصور الحسن، حيث يتبعون الأحسن، بعد أن يعملوا قواهم العقلية وملكاتـهم الفكرية في دراسة القول، إذ أنهم ( يستمعون ) والاستماع غير السماع، فالسماع يمر عبر الأذن، أما الاستماع فيكون بجارحة العقل مع الأذن!
إن هـذا الاتبـاع لأحسـن القول هو انحياز للفكرة الإسلامية الراقية، حتى لـو جـاء هذا القول من شـانئ أو عدو، وهو انحياز للمصلحة المتوقع استفادتها من الاستماع، وهو دلالة على امتلاك هذا الشـخص أو الكيان للتفكير السليم ( وأولئك هم أولو الألباب ) ، وقبل هذا وذاك هو انحياز للعلم والخبرة والتجارب الناجحة، وهي قيم أعلى الإسلام من شأنها.
ولقد وصل تقدير العلم والخبرة في القرآن إلى حد أنه أحل صيد الكلب المعلم، وهو الكلب الذي يدرب على الصيد بطريقة لا تحمل نجاسة لعابه إلى الحيوان المصيد، وبحيث لا يأكل من هذا الصيد، ولا يعذب ذلك [ ص: 167 ] الحيـوان قبل قتله، وبالتالي فهو خبير في الصيـد، وهذه الخبرة هي التي نقلت ما يصيده هذا الحيوان من دائرة الحرمة إلى دائرة الحل، قال تعالى: ( فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ) (المائدة:4).
وإذا كان القرآن قد أجاز الاستفادة من خبرة الكلب المعلم في مجال الصيد مع نجاسته في ذاته، فكيف لا يجيز الاستفادة من خبرات البشر الآخرين في كل مجالات الحياة، إذا كانت هذه الاستفادة ستحقق مقاصد الدين ومصالح العباد، حتى لو كانت هذه المصـالح في المعاش دون المعاد؛ لأن ما مع المسلم من أصول ونظم وقيم تكفل له أن يستفيد من الجميع في إطار تحقيق المصالح الإنسانية، معاشا ومعادا. بل ويستطيع المسلم بهذا الزاد أن يغربل ما أخذ من الآخرين من أفكار وخبرات، اختلط فيها الحق بالباطل، بحيث يأخذ ما ينفعه ويترك الزبد!
وفي سياق تقدير المعارف والخبرات، جاء في قصة يوسف، عليه السلام، قوله تعالى: ( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين * قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) (يوسف:54-55). لقد رشح الملك يوسف بسبب معارفه، وفوضه في اختيار ما يريد من المناصب، ونتيجة شعور يوسف بالمسؤولية نحو الناس ونتيجة معرفته بقدراته وإمكاناته الذاتية ( إني حفيظ عليم ) ، فقد اختار العمل الذي يستطيع القيام به، وهو ما يوازي الآن وزير المالية. [ ص: 168 ]
ولما كانت هذه المناصب قديما لا تتوافر لها الأنظمة الحسابية والرقابية الحديثة، فإن أعباءها تتركز على المسؤول الأول، وهنا لابد أن يجمع بين الأمانة (الحفظ) والقدرة (العلم)، وهاتان الصفتان هما من جعلتا يوسف، عليه السلام، يرشح نفسه لهذا العمل، وخاصة أن البلد(مصر) كانت مقبلة على مواسم جفاف وجدب، ستمتد لسبع سنوات، ولو لم يوجد من يمتلك الإمكانات العقلية والنفسية الملائمة لقيادة سفينة(مصر) نحو شاطئ السلامة وبر الأمان، لغرقت وسط أمواج عاتية من المجاعات والفقر والهلاك.
هذا الأمر يمثل درسا للمسلمين لكي يعملوا على اكتشاف مواهبهم وقدراتهم وتنميتها وصقلها بالتجارب حتى يتم الوصول إلى مرحلة الخبرة، من أجل توظيفها لصالح المجتمع، وإذا وجدت هذه الخبرة جاهزة عند (الآخر)، فمن الحمق عدم الاستفادة منها؛ لأن الخبرة خلاصة التفاعل بين العلم والواقع من خلال التجريب وممارسة الخطأ حتى الوصول إلى الصواب.