6- النسبية وتغير الأحكام:
من القواعد التي تعارف عليها الأصوليون أن "الفتوى تقدر زمانا ومكانا"، ولذلك نقل عن معظم الفقهاء فتاوى وآراء متعددة في ذات المسألة، فالإمام الشافعي له مذهبان، الأول يعبر عن الشطر الأول من حياته حيث كان في العراق، والثاني يجسد قناعاته في الشطر الآخر من حياته، حيث تغير الزمان والمكان، عندما انتقل للسكنى في مصر.
وكان للإمام مالك أكثر من رأي في كثير من المسائل رغم أنه قضى حيـاته كلها في المدينة المنـورة، لكن تغير الزمان دفعه لتغيير بعض فتاواه، أما الإمام أحمد فقد كان ينقل عنه في المسألة الواحدة خمسة آراء، وروي في كتب التراث أنه كان يقعد للفتوى في مكة أثناء مواسم الحج، وكان قبل أن يجيب السائل عن سؤاله يسأله عن بلده فيجيبه بما يراعي ظروف بلاده، وهكذا كانت الفتاوى تختلف باختلاف الأماكن مع أن المفتي واحد والمسألة واحدة والزمن واحد.
ورغم أن الحرام بين ولم يمت الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وقد وضحه عبر تبليغه للقرآن والسنة، إلا أن بعض المحرمات قد يجوز فعلها حال الضرورة، وقد يصل الأمر إلى حد الوجوب كما يرى ذلك أكثر الفقهاء، قال تعالى ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) (البقرة:173 ) [ ص: 200 ] ، وقال مثل ذلك في سورة الأنعام (الآية:145 )، وقال أيضا مثل ذلك في سورة النحل (الآية:115).
وفي هذا السياق اتفق علماء الأمة على أن الشريعة الإسلامية جاءت من أجل تحقيق المصالح وتكميلها وإزالة المفاسد وتقليلها، ومن ثم أوجدوا قواعد عريضة تدور حول هذه المعاني النسبية، مثل: "الضرورات تبيح المحظورات"، "المشقة تجلب التيسير"، "مصلحة الأبدان مقدمة على مصلحة الأديان".
وفي الطرف الآخر فإن عمل الفرائض من الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة، لكنها تخفف أو تسقط إذا انبنى عليها مفسدة، مثل الصوم، فقد يصل إلى درجة التحريم على بعض المرضى إذا أفتى الطبيب الشرعي أن الصوم سيؤدي إلى تلف بعض الأعضاء، بمعنى أن ما هو واجب على أغلب الناس قد يكون مباحا لآخرين، وقد يكون حراما على غيرهم، ولذلك لا يجوز للمرأة الحائض أو النفساء صيام رمضان، وأوجب كثير من العلماء على المرأة الحامل أو المرضع الإفطار، مراعاة لصحتها وصحة جنينها. ووضعوا قواعد في هذه الدائرة مثل "المشقة تجلب التيسير"، "إذا ضاق الأمر اتسع".
إن قانون النسبية الذي يدور مع المصالح وجودا وعدما، والذي ينتظم عقده وفلكه بالدوران حول المقاصد، يتغلغل حتى في الأحكام الثابتة بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، فإن هذه الأحكام لا يجب تطبيقها إطلاقا، ولكن عموما فهناك ظروف تمنعها من التطبيق، مثل عدم وجود مناطاتها أي عدم وجود مكانها المناسب، أو إذا كانت ستؤدي إلى إنشاء مفسدة، فإن [ ص: 201 ] "درأ المفسدة مقدم على جلب المصلحة"، أو ستؤدي إلى إيجاد مفسدة أكبر، وهذا يتبين من خلال إتقان ما يسمى بفقه "مآلات الأحكام".
وانطلاقا من هذه النسبية القائمة على الفقه العميق لمقاصد التشريع جاءت الاجتهـادات الرائعة للخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقد امتنع عن إخراج سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة في الشطر الثاني من خلافته عندما أصبحت الأمة عزيزة ومهابة الجانب، بعد هزيمة المسلمين لإمبراطوريتي الروم والفرس، وكذلك توقيف أرض السواد في العراق وعدم توزيعها على المقاتلين، وكذلك تجميد حد السرقة في عام الرمادة.
وحول حرمان "المؤلفة قلوبهم" من الزكاة، يقول د. يوسف القرضاوي: "فإن عمر إنما حرم قوما كانوا يتألفون على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى أنه لم يعد هناك حاجة لتأليفهم، وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم . ولم يجاوز الفاروق الصواب فيما صنع فإن التأليف ليس وصفا ثابتا دائما، ولا كل من كان مؤلفا في عصر يظل مؤلفا في غيره من العصور، وإن تحديد الحاجة للتأليف، وتحديد الأشخاص المؤلفين، أمر يرجع إلى أولي الأمر، وتقديرهم لما فيه خير الإسلام ومصلحة المسلمين [1] .
وفي هذا السياق فإن فقهاء السلف الأول كانوا يقدمون حقوق الناس على حقوق الله إذا تعارضتا، منطلقين من القاعدة التي استنبطوها من عموم النصوص القرآنية والمقاصد التشريعية وهي أن "حقوق الناس مبنية على المشاحة، وحقوق الله مبنية على المسامحة". [ ص: 202 ]
وفي مجال العبادات نجد النسبية حاضرة من خلال التفاضل القائم بين حقوق الله وحقوق الناس، وكذلك بين العبادات اللازمة (الفردية) والعبادات المتعدية(الاجتماعية). وقد أورد أحد الباحثين [2] ! أمثلة لهذا الأمر نقلها عن شيخ الإسلام ابن تيمية وهي: جنس الجهاد أفضل من الحج، جنس الصدقة أفضل من الصيام، جنس تلاوة القرآن أفضل من جنس الذكر، جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء، جنس الصلاة أفضل من قراءة القرآن، جنس الحسنات أنفع من جنس السيئات.
إلا أن هذا التفاضل ليس ثابتا، بل يتغير أحيانا ليصبح الفاضل مفضولا والعكس، إما لظروف زمانية أو مكانية أو شخصية، فليس كل فاضل يكون فاضلا دائما، وليس كل مفضول يكون مفضولا دائما، كما أنه "ليس كل ما كان أفضل يشرع لكل أحد. بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له" [3] .
وتقتضي النسبية أن يفقه صاحبها ما يسمى بفقه الأولويات، وقد كتب حول هذا الفقه عدد من علماء المسلمين.
ومما يروى في هذا المضمار أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقدم المفضول على الأفضل في القيادات والإدارات إذا كان أنفع للمسلمين . يقول ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين": "سئل الإمام أحمد عن رجلين أحدهما أنكى في [ ص: 203 ] العدو مع شربه الخمر، والآخر أدين . فقال: يغزى مع الأنكى في العدو؛ لأنه أنفـع للمسـلمين . وبهذا مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يولي الأنفع للمسلمين على من هو أفضل منه، كما ولى خالد بن الوليد من حين أسلم على حروبه لنكايته في العدو، وقدمه على بعض السابقين من المهاجرين والأنصار، مثل عبد الرحمن بن عوف وسالم مولى أبي حذيفة وعبد الله بن عمر، وهؤلاء ممن أنفق قبل الفتح وقاتل وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وخالد ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل فإنه أسلم بعد صلح الحديبية" [4] .