تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي اصطفانا لوراثة النبوة والكتاب، وشرع لنا من الدين ما وصى به الأنبياء، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32 ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) (فاطر:32) ، وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13 ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) (الشورى:13) ، فأوقفنا بالرسالة الخاتمة على سيرة النبوات وعطائها وتعاملها مع الأمم والحضارات من لدن آدم، عليه السلام، إلى أن كمل الدين واكتمل بالنبوة الخاتمة، وبذلك كانت الرسالة الخاتمة وريثة النبوة والحضارة الإنسانية بكل تجاربها، الأمر الذي شكل ولا يزال فقها حضاريا ودليلا هاديا لسياسة شؤون الحياة وفق منهج الله، والتحقق بالعظة والعبرة والتقوى خشية الزلل والانحراف وممارسة البغي وغياب العدل وإهدار كرامة الإنسان.
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي اختتمت به النبوة وكمل به الدين، فكان رسول الإنسانية، وكان المؤمن بنبوته مؤمنا بالأنبياء جميعا، وكانت سيرته تجسيدا لقيم النبوة في واقع الناس، وأنموذجا للاقتداء في إمامة الدين وسياسة الدنيا.
[ ص: 5 ]
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" الرابع والأربعون بعد المائة: "فقه السياسة الشرعية.. الجوينـي أنموذجا" للدكتور عمر أنور الزبداني، في سلسلة "كتاب الأمة" التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في سعيها المتواصل لإحياء مواريث النبوة، ومعاودة إخراج الأمة الوسط، أمة العدل والمساواة، كي تضطلع بدورها في الشهادة على الناس والقيادة لهم إلى الخير وبناء الحكم الراشد، ذلك أن العدل والمساواة هما محور الحضارة ومرتكزها الأساس، وذلك لا يتحقـق إلا بنسخ الآلهة وإيقاف البغي والظلم وتسلط الإنسان على الإنسان تحت عناوين وشعارات شتى، وأنه لا سبيل إلى إيقاف هذا التسلط إلا بعقيدة التوحيد، بالإيمان بالله الواحد، الذي يتساوى الناس أمامه، يعبدونه ويستعينون به بدون وسائط.
فعقيدة التوحيد هي في الحقيقة سبيل التحرير والتحرر من العبوديات وهي ميثاق الخـلاص الإلهـي للإنسـان، لذلك كانت شهادة "أن لا إله إلا الله" هي الفيصل الأساس بين الإيمان والشرك :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=13 ( إن [ ص: 6 ] الشرك لظلم عظيم ) (لقمان:13) ، وأنها منعطف التحول ومنطلق العدل، وأساس الحكم الراشد، وأنها سبيل السعادة في الدنيا والفوز بالآخرة.
ولذلك اعتبرت قيم النبوة الخاتمة أن جميع الذنوب والخطايا التي يقع فيها الإنسان قابلة للغفران إلا ما يخدش الإيمان بالله الواحد، فــ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48 ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) (النساء:48) ، فـكل ما دون الشرك الذي يعني - فيما يعني- الظلم والتسلط والتأله على الخلق مؤهل للغفران، لذلك كان إعلان "لا إله إلا الله" هو منعطف التحول والتحويل من الكفر إلى الإيمان، وبوابة التغيير لواقع الحضارة، ومفتاح البناء الكبير للكون والإنسان والحياة، ومنطلق إقامة تعاليم الدين وإدارة شؤون الدنيا.
وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد أن الحكم الراشد وسياسة شؤون الدنيا وفق قيم الكتاب والسنة هي دين من الدين، وأن الله سبحانه وتعالى الذي أمر المؤمنين بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=110 ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) (البقرة:110) ، هو الذي قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48 ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ) (المائدة:48) ، بل لعلنا نقول: إن عبادة إقامة الصلاة وصيام رمضان على أهميتها ودورها فإنها تبقى شأنا فرديا، أما الحكم بما أنزل الله من التزام قيم الحق والعدل والمساواة بين الناس ففيه الخير العميم للفرد والمجتمع والأمة والدولة.
ولذلك نعتقد أن الذين يحاربون الدين، عقيدة الإيمان بالله الواحد، ويحاولون إقصاءه عن حكم حياة الناس واعتباره شأنا فرديا خاصا، على أحسن الأحوال، إنما يحاربونه لأنه يسويهم بغيرهم، وهم يسعون ليجعلوا من أنفسهم آلهة مشرعة للناس قيمهم ومناهج حياتهم، وذلك كان ولا يزال أساس الشر في العالم.
[ ص: 7 ]
ولذلك كانت المحاولات ولا تزال من المستكبرين مستمرة للخروج عن استحقاقات عقيدة التوحيد تحت شتى الذرائع والفلسفات، وكانت سنة التدافع بين الحق والباطل، والعدل والجور هي جدلية الحياة، يقول تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17 ( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) (الرعد:17) ، ويقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=31 ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ) (الفرقان:31) ، وكان أول ما ينقض من عرى الإسلام عروة الحكم، كما أخبر بذلك الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم :
( لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة ) (أخرجه أحمد) ، فإصابة الحاكمية وانتقاض عروة الحكم الراشد كانت من أولى الإصابات الكبرى، التي لحقت بالأمة المسلمة بعد اكتمال الدين بالنبوة الخاتمة واكتمال الأنموذج البشري بعد توقف الوحي بالخلافة الراشدة وبناء الحكم الراشد، الذي كان ولا يزال مصدر تشريع وإلهام واقتداء ومقاربة ومقارنة وتشوق وحنين لكل مراحل الحياة الإسلامية فيما بعد.
والذي نحـب أن يكون واضـحا، أنه على الرغم من أن نظام الحكم أو إدارة شؤون الدنيا جزء من الدين، أو دين من الدين -كما أسلفنا- إلا أنه ليس الدين كله، على كل حال، فانتقاض عروة الحكم وانفصال السلطان عن القرآن لم يوقف مسيرة وامتداد الفقه والثقافة والحضارة الإسلامية في شعب الحياة المختلفة، حيث انحازت الأمة إلى القرآن، وعزلت السلطان المستبد إلى حد بعيد عن التأثير في حياتها، وأقامت المؤسسات الكفيلة بامتداد الحضارة
[ ص: 8 ] والأمة والمجتمع كمؤسسة الوقف وغيرها من مصادر التكافل الاجتماعي، التي اضطلعت ولا تزال بوظائف الدولة والحكم، واستمرت المدافعة بين الحق والباطل ولا تزال حتى قيام الساعة وتوقف الحياة على الأرض.
والحقيقة التي لا بد من الإتيان على ذكرها أن الحكم على مسيرة الأمة المسلمة وخصائص الحضارة الإسلامية من خلال عروة الحكم ومدى صلاحه وفساده وتتبع والتقاط النقاط السـود في مسيرة الأمة، والعمى عن آفاق وأبعاد الإنجاز والامتداد الحضاري، كما هو شأن الكثير من الحضارات والإمبراطوريات، التي سادت من خلال بناء الحكم القوي ثم بادت بعد انحلال عراه وتحلل إنسانه فيه الكثير من الظلم والتجني وعـدم الواقعيـة، كما هو مشاهد، وقد نقول: الكيد والحقد الديني والثقافي.
فمسيرة الحضارة الإسلامية لم تتوقف، وعطاؤها لم ينقطع، وأمتها لن تموت بانتقاض عروة الحكم؛ لأنها أمة الرسالة الخاتمة، التي تمتد بالقيم الإسلامية، التي تعهد الله بحفظها من خلال عزمات البشر، واستمرار وتواصل الطائفة القائمة على الحق، التي قد تضيق وقد تتسع لكنها لا تنقطع، فهي التي تشكل خميرة النهوض والتي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله:
( لا تزال طـائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) (أخرجه مسلم).
وهذه القيم المحفوظة الخالدة كانت ولا تزال تشكل الإمكان الحضاري للأمة القادرة على الإنتاج، في كل زمان ومكان، والتصويب وإصلاح الخلل
[ ص: 9 ] على جميع المستويات، فالعقائد أقوى من الفلسفات، والقيم والمبادئ أسمى وأصدق من السياسات، والأمم أبقى من الدول والحكومات.
فالدولة دائلة، والأمة باقية، لذلك كان محل النبوات تاريخيا الأمة والمجتمع والإنسان وليس الدولة والسياسة، فلم تخرج الدولة في النهاية عن أن تكون إحدى وسائل الدعوة.
إن توقف امتداد الحكم الراشد وانتقاض عروة الحكم بعد أنموذج الخلافة الراشدة -ولعل ذلك سنة ماضية في الحياة، فالأنموذج يصعب تكراره وإنما يبقى محلا للمقاربة والمقارنة والمثاقفة والمفاكرة- وانفصال السلطان عن القرآن، أو انعزال مؤسسة السلطان عن مجتمع القرآن، والانتهاء إلى الملك العضوض أدى بشكل طبيعي إلى توقف الفقه السياسي عن الامتداد بموازاة الفقه التشريعي، حيث تحكمت شهوة الحكم، فـ(آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرئاسة، كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي، رحمه الله)، وكان الصراع على الحكم والمغالبة عليه وكان فقه المسوغات والذرائع هو الفقه السائد والشغل الشاغل للكثير في مجتمع المسلمين، شأن المجتمعات البشرية الأخرى، الأمر الذي لم يحل دون امتداد الحضارة والثقافة والتشريع والأمة والمجتمع، كما أسلفنا.
وبالإمكان التأكيد أن الفقه السياسي لم يمتد بالشكل المأمول، وأنه في معظمه نشأ في ظل أنظمة السلطان، التي لم تعد تضطلع بالشكل المطلوب بالحاكمية الإسلامية، وتتأسى بالحكم الراشد، وتلتزم سنة الخلفاء الراشدين في تطبيق الشورى في اختيار الحاكم والشورى في إدارة شؤون الحكم،
[ ص: 10 ] ولذلك تمحور في معظمه حول فقه مشروعية الحكم بالغلبة، وجواز التوريث، ووجوب طاعة ولي الأمر، دون مناقشة وجوب الشورى في اختيار الحاكم وكفاءته واعتماده الشورى في إدارة شؤون الحكم، ودون مناقشة التزام الحاكم بقيم الحكم في الإسلام، التي بها يكون ولي الأمر الواجب الطاعة:
( اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ) (أخرجه البخاري) ، وفي روايـة:
( ... وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع، ما أقام فيكم كتاب الله ) لذلك فقد لا يكـون مستـغربا تغييب أو غياب ضوابط الطاعة ومقوماتها الشرعية وخصائص وصفات الأمر وممارسات ولي الأمر؛ لأن البحث في ذلك قد يغضب الحاكم.
والمحور الثاني، الذي امتد فيه الفقه السياسي، ولعله من لوازم الأول واستحقاقاته، هو فقه تحريم الخروج على الحاكم، الأمر الذي أدى إلى تنـزيل الأحكام الشرعية على غير محالها، حيث لم يعد يرى فقهاء السلطان تاريخيا في الخروج على الحاكم إلا الخروج المسلح، شأن فقهاء السلطان في كل زمان ومكان، علما بأن هذه الفتاوى والأحكام ليست جديدة ولا طارئة على أهل الدين الخاتم، وإنما هي من علل التدين، التي قد تكون انتقلت إلينا من الأمم السابقة، حيث يتحالف الطاغوت (الاستبداد السياسي)، مع الجبت (الكهانات الدينية) التي تعطي المسوغ للاستبداد السياسي وتحرم عصيانه والخروج عليه أمام الجماهير التي قد تكون (أهلكت إرادتها بالطاغية).
ومن الإنصـاف القـول، والأمـة لا تجتمـع على ضلالة
( إن أمتي لا تجتمع على ضلالة ) (أخرجه ابن ماجه): إنه لم يخل زمن أو عصر من
[ ص: 11 ] علماء عدول مجاهدين، يحملون العلم وينفون عنه نوابت السوء - وهذا من لوازم الخاتمية وتوقف التصويب والتجديد من الوحي - يعتزلون مؤسسة الحكم، ويحملون النصح، ويجهرون بكلمة الحق، ويحمون الجماهير من فساد مؤسسة الحكم، ويوازنون بين المصالح والمفاسد في التعامل مع مؤسسة الحكم.
لذلك نرى أن الفقه السياسي أو الفقه المصطلح عليه بـ"السياسة الشرعية" والذي يشكل رصيدنا الثقافي في مجال الحاكمية لا بد أن ينظر إليه ويحكم عليه من خلال سياقه التاريخي والظروف والملابسات التي أحاطت به، وقد يكون في معظمه تمحور حول قاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، فهو بعمومه فقه درء المفاسد، وأنه في النهاية اجتهادات بشرية غير ملزمة، كسائر الاجتهادات، يؤخذ منها ويرد، خاصة بعد أن تطورت الأدوات والوسائل البشرية في أشكال المعارضة والمواجهة والمناصحة بحسب ظروف كل زمان ومكان، في بناء أنظمة الحكم، فالبعض يحرم الخروج ويوجب الطاعة بإطـلاق ومهما كانت الظروف، والبعض الآخر لا يرى إلا الخروج والمواجهة مهما كانت النتائج؛ ونمط الوسطية والعـدل ما يزال غائبا بالأقدار المطلوبة عن المعادلة السياسية.
إن التوهم بأن الخروج على الحاكم يعني أو يقتصر على الخروج المسلح، الذي يدخل الأمة في متاهات مجهولة، ومفاسد لا حدود لها، والحكم عليه بالتحريم فيه الكثير من التدليس والالتباس والتكريس لحكم الفساد والاستبداد ولجم الجمهور بأحكام شرعية غالبا ما تصدر عن فقهاء السلطان، سدنة السلطة السياسية أو السلطة المالية، الذين يضعون المسوغات
[ ص: 12 ] وينتقون الأحكام الشرعية لتبرير عمل الحاكم، ومن ثم تتحول القضية عندهم إلى لون من الدفاع عن النفس، علما بأن وسائل وأدوات النقد والمراجعة والمناصحة والمظاهرة والمناظرة والإعلام أصبحت أشد تأثيرا من الخروج المسلح، وأقل خطورة وضحايا.
وكم نحن بحاجة إلى تطوير وسائلنا في المناصحة والنقد والمراجعة واستخدام الصحافة والإعـلام والتي أصبحـت تسمى بـ: "القوة المرنة" أو "الناعمة"، والتحول من المواجهة إلى الحوار والمجادلة وبيان الخلل والفساد، والإفادة مما وصل إليه (الآخر) في تسديد مسيرة الحكم، والحيلولة دون الخروج والمواجهات المسلحة، التي لم تحمل لنا خيرا على مدار التاريخ.
وبذلك نتخلص من عمى الألوان، فلا نرى إلا إما الخروج المسلح بكل مخاطره ومفاسده فنحرمه بحسن نية أو بسوء نيه، وإما التستر والسكوت والاستسلام، الذي يكرس الفساد ويؤله الحاكم ويعصمه عن الخطأ(!)
ولا شك أن الاستبداد السياسي (الطاغوت) وسدنته من فقهاء فتاوى السلطان والكهانة الدينية (الجبت)، أي التحالف بين الجبت والطاغوت انتهى في كثير من المواقع إلى ألوان من القهر والكبت والضغط واليأس، الذي دفع بالكثير إلى عدم الثقة بالمؤسسة الدينية، فأدى إلى الارتماء والافتتان بـ (الآخر)، كما ولد في الداخل الإسلامي انفجارات ومواجهات مسلحة، كرد فعل، وظفت لها الكثير من الأحكام الشرعية وأسقطت على غير محالها، فكانت المخاطر أكبر وأشد، خاصة عندما حكم الأفراد بتكفير الحكام وإخراجهم من ربقة الدين، الأمر الذي دفع بعض الشباب المتحمس للقيام
[ ص: 13 ] بمجازفات ومواجهات كانت السبب في الكثير من البلاء، الذي لحق بالعاملين للإسلام، والتشويه لقيم الإسلام وصورة العمل الإسلامي.
فلقد أباح الأفراد لأنفسهم أن يحلوا محل الدولة، وأعطوا لأنفسهم الحق في ممارسة وظائفها، وبدأوا تسويغ أعمالهم بفهم عليل وفقه سقيم وتدين مغشوش للأحكام الشرعية المتعلقة بالحكم واستحقاقاته فوقعوا بما لا يقل سوءا وخطورة عن فتاوى فقهاء السلطان، لذلك ذهب الكثير من أهل العلم إلى تحريم الخروج على الحاكم ولو تفاقم انحرافه، خاصة إذا كان الخروج عليه سينتهي بالأمة إلى الفوضى بسبب ما يمكن أن يكون من الممارسات الخطيرة للأفراد والجماعات، الذين أعطوا أنفسهم حق الاضطلاع بمهام ووظائف الدولة.
وقد لا يتسع المجال في هذا التقديم لبسط القول في إشكالية الحاكمية واستحقاقات الحكم الراشد، وقد تناولت مقومات الحكم الراشد واستحقاقاته بشيء من التفصيل في رسالة "الحاكمية في الإسلام.. بين المدني والديني" طباعة ونشر "المكتب الإسلامي" في بيروت، لبنان.
فالسياسة الشرعية، التي أصبحت أحد أبواب الفقه، في معناها العام، هي فن الإدارة، وهي منهج العمل؛ والمنهج يعني - فيما يعني - علم الطريق الموصل إلى الهدف؛ والسياسة الشرعية هي السياسة والاجتهاد المنطلق من القيم الإسلامية في الكتاب والسنة وتطبيقاته في السيرة والخلافة الراشدة؛ والضابط الأساس لها أن تكون الأهداف مشروعة، والوسائل الموصلة لتحقيق الأهداف مشروعة.
[ ص: 14 ]
والسياسة الشرعية لا تقتصر على مؤسسة الحكم، وإن كانت تتمحور غالبا حولها بشمولية وظائفها، وإنما هي بشكل عام فقه بالنوازل والمتغيرات وكيفية التعامل معها من خلال مرجعية شرعية، واجتهاد يأخذ باعتباره ظروف الزمان والمكان وموازنة المصالح والمفاسد، التي تتطور وتتغير وتتطلب الاجتهاد لمواجهة المتغيرات والحوادث الجديدة، التي لا تتناهى، حيث لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان؛ ولعلنا نقول: إن السياسة الشرعية في بعض جوانبها وموضوعاتها من فقه النوازل، الذي يتطلب فقها للنص ومقاصده، وفهما للواقع ومكوناته، وعلما بالممكن والمستطاع في بيان حدود التكليف.
وبعد:
فهذا الكتاب: في أصله رسالة علمية أكاديمية، يمكن اعتباره مساهمة مقدورة في استدعاء جوانب من الفقه السياسي في تراثنا، تناول أحد الأعلام الكبار والأئمة المجتهدين العظام، الذين جمعوا بين فقه النص الشرعي والدراية بأبعاد الحاكمية في الإسلام وفهم الواقع البشري، وفقه الإدارة، وموازنة المصالح والمفاسد، والاجتهاد في وضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة، وكيفية تعاملها مع النوازل والأزمات الكبرى وإشكاليات الحكم والدولة، وتقديمه كأنمـوذج للنظر والاجتهاد ودقـة الاستـدلال وإبصار المصالح والمفاسد في التعاطي مع السياسـة، كنظام لإدارة الدولة، والاضـطلاع بوظـائفها، وما يتطلب من فقه شرعي يحول دون جنوحه عن الجادة.
ويبقى المطلوب قراءة آراء واجتهادات هذا الإمام الكبير، وغيره من أئمة الفقه والاجتهاد، في ضوء السياق التاريخي، الذي تولدت فيه والنوازل
[ ص: 15 ] التي لحقت بالدولة والأمة المسلمة، وكيفية التعامل معها، ومحاولة استصحاب ذلك الفقه وتلك البصيرة لإغناء رؤيتنا الشرعية في التعامل مع الدولة والمجتمع والعصر.
إن دراسة هؤلاء الأعلام، والتجسير بينهم وبين الجيل يفتح آفاقا رحبة وواسعة، ويجنب هذا الجيل الكثير من المخاطر والمجازفات، ويحصنه بالأحكام والآداب الشرعية، التي تتميز بها الحاكمية في الإسلام، ويدعوه للاعتزاز بتاريخه الفقهي والثقافي؛ والارتكاز إلى تراث فقهي عظيم يتطلب توفير مؤهلات الوراثة والامتداد لإحياء مواريث النبوة والخلافة الراشدة، كأنموذج للحاكمية في الإسلام، وتحقيق خلود النبوة بالتجديد والاجتهاد، وذلك بتجريد الأحكام الشرعية من ظرف الزمان والمكان، وامتلاك القدرة على توليدها في كل زمان ومكان.
فكم نحن بحاجة إلى مثل هذه الدراسات لبناء الملكة الفقهية والانضباط بدقة النظر وموازين الحق والعدل والإنصاف قبل المجازفة في إصدار الأحكام، وقبل المحاولة في الإفادة من (الآخر) بشكل أعشى وبدون معيار يمكننا من إبصار ماذا نأخذ وماذا ندع.
فجزى الله الباحث خيرا، وأمكنه من طباعة أصل الرسالة، ووضعها في متناول الدارسين والباحثين ونفع بها.
والحمد لله من قبل ومن بعد.
[ ص: 16 ]
تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي اصطفانا لوراثة النبوة والكتاب، وشرع لنا من الدين ما وصى به الأنبياء، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32 ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (فاطر:32) ، وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13 ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينِ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مِنَ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مِنَ يُنِيبُ ) (الشورى:13) ، فأوقفنا بالرسالة الخاتمة على سيرة النبوات وعطائها وتعاملها مع الأمم والحضارات من لدن آدم، عليه السلام، إلى أن كمل الدين واكتمل بالنبوة الخاتمة، وبذلك كانت الرسالة الخاتمة وريثة النبوة والحضارة الإنسانية بكل تجاربها، الأمر الذي شكل ولا يزال فقهًا حضاريًا ودليلًا هاديًا لسياسة شؤون الحياة وفق منهج الله، والتحقق بالعظة والعبرة والتقوى خشية الزلل والانحراف وممارسة البغي وغياب العدل وإهدار كرامة الإنسان.
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي اختتمت به النبوة وكمل به الدين، فكان رسول الإنسانية، وكان المؤمن بنبوته مؤمنًا بالأنبياء جميعًا، وكانت سيرته تجسيدًا لقيم النبوة في واقع الناس، وأنموذجًا للاقتداء في إمامة الدين وسياسة الدنيا.
[ ص: 5 ]
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" الرابع والأربعون بعد المائة: "فقه السياسة الشرعية.. الجوينـي أنموذجًا" للدكتور عمر أنور الزبداني، في سلسلة "كتاب الأمة" التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في سعيها المتواصل لإحياء مواريث النبوة، ومعاودة إخراج الأمة الوسط، أمة العدل والمساواة، كي تضطلع بدورها في الشهادة على الناس والقيادة لهم إلى الخير وبناء الحكم الراشد، ذلك أن العدل والمساواة هما محور الحضارة ومرتكزها الأساس، وذلك لا يتحقـق إلا بنسخ الآلهة وإيقاف البغي والظلم وتسلط الإنسان على الإنسان تحت عناوين وشعارات شتى، وأنه لا سبيل إلى إيقاف هذا التسلط إلا بعقيدة التوحيد، بالإيمان بالله الواحد، الذي يتساوى الناس أمامه، يعبدونه ويستعينون به بدون وسائط.
فعقيدة التوحيد هي في الحقيقة سبيل التحرير والتحرر من العبوديات وهي ميثاق الخـلاص الإلهـي للإنسـان، لذلك كانت شهادة "أن لا إله إلا الله" هي الفيصل الأساس بين الإيمان والشرك :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=13 ( إِنَّ [ ص: 6 ] الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (لقمان:13) ، وأنها منعطف التحول ومنطلق العدل، وأساس الحكم الراشد، وأنها سبيل السعادة في الدنيا والفوز بالآخرة.
ولذلك اعتبرت قيم النبوة الخاتمة أن جميع الذنوب والخطايا التي يقع فيها الإنسان قابلة للغفران إلا ما يخدش الإيمان بالله الواحد، فــ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48 ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) (النساء:48) ، فـكل ما دون الشرك الذي يعني - فيما يعني- الظلم والتسلط والتأله على الخلق مؤهل للغفران، لذلك كان إعلان "لا إله إلا الله" هو منعطف التحول والتحويل من الكفر إلى الإيمان، وبوابة التغيير لواقع الحضارة، ومفتاح البناء الكبير للكون والإنسان والحياة، ومنطلق إقامة تعاليم الدين وإدارة شؤون الدنيا.
وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد أن الحكم الراشد وسياسة شؤون الدنيا وفق قيم الكتاب والسنة هي دين من الدين، وأن الله سبحانه وتعالى الذي أمر المؤمنين بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=110 ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) (البقرة:110) ، هو الذي قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48 ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابَ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) (المائدة:48) ، بل لعلنا نقول: إن عبادة إقامة الصلاة وصيام رمضان على أهميتها ودورها فإنها تبقى شأنًا فرديًا، أما الحكم بما أنزل الله من التزام قيم الحق والعدل والمساواة بين الناس ففيه الخير العميم للفرد والمجتمع والأمة والدولة.
ولذلك نعتقد أن الذين يحاربون الدين، عقيدة الإيمان بالله الواحد، ويحاولون إقصاءه عن حكم حياة الناس واعتباره شأنًا فرديًا خاصًا، على أحسن الأحوال، إنما يحاربونه لأنه يسويهم بغيرهم، وهم يسعون ليجعلوا من أنفسهم آلهة مُشرِّعة للناس قيمهم ومناهج حياتهم، وذلك كان ولا يزال أساس الشر في العالم.
[ ص: 7 ]
ولذلك كانت المحاولات ولا تزال من المستكبرين مستمرة للخروج عن استحقاقات عقيدة التوحيد تحت شتى الذرائع والفلسفات، وكانت سنة التدافع بين الحق والباطل، والعدل والجور هي جدلية الحياة، يقول تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17 ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ) (الرعد:17) ، ويقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=31 ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) (الفرقان:31) ، وكان أول ما ينقض من عرى الإسلام عروة الحكم، كما أخبر بذلك الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم :
( لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلاةُ ) (أخرجه أحمد) ، فإصابة الحاكمية وانتقاض عروة الحكم الراشد كانت من أولى الإصابات الكبرى، التي لحقت بالأمة المسلمة بعد اكتمال الدين بالنبوة الخاتمة واكتمال الأنموذج البشري بعد توقف الوحي بالخلافة الراشدة وبناء الحكم الراشد، الذي كان ولا يزال مصدر تشريع وإلهام واقتداء ومقاربة ومقارنة وتشوق وحنين لكل مراحل الحياة الإسلامية فيما بعد.
والذي نحـب أن يكون واضـحًا، أنه على الرغم من أن نظام الحكم أو إدارة شؤون الدنيا جزء من الدين، أو دين من الدين -كما أسلفنا- إلا أنه ليس الدين كله، على كل حال، فانتقاض عروة الحكم وانفصال السلطان عن القرآن لم يُوقف مسيرة وامتداد الفقه والثقافة والحضارة الإسلامية في شعب الحياة المختلفة، حيث انحازت الأمة إلى القرآن، وعزلت السلطان المستبد إلى حد بعيد عن التأثير في حياتها، وأقامت المؤسسات الكفيلة بامتداد الحضارة
[ ص: 8 ] والأمة والمجتمع كمؤسسة الوقف وغيرها من مصادر التكافل الاجتماعي، التي اضطلعت ولا تزال بوظائف الدولة والحكم، واستمرت المدافعة بين الحق والباطل ولا تزال حتى قيام الساعة وتوقف الحياة على الأرض.
والحقيقة التي لا بد من الإتيان على ذكرها أن الحكم على مسيرة الأمة المسلمة وخصائص الحضارة الإسلامية من خلال عروة الحكم ومدى صلاحه وفساده وتتبع والتقاط النقاط السـود في مسيرة الأمة، والعمى عن آفاق وأبعاد الإنجاز والامتداد الحضاري، كما هو شأن الكثير من الحضارات والإمبراطوريات، التي سادت من خلال بناء الحكم القوي ثم بادت بعد انحلال عراه وتحلل إنسانه فيه الكثير من الظلم والتجني وعـدم الواقعيـة، كما هو مشاهد، وقد نقول: الكيد والحقد الديني والثقافي.
فمسيرة الحضارة الإسلامية لم تتوقف، وعطاؤها لم ينقطع، وأمتها لن تموت بانتقاض عروة الحكم؛ لأنها أمة الرسالة الخاتمة، التي تمتد بالقيم الإسلامية، التي تعهد الله بحفظها من خلال عزمات البشر، واستمرار وتواصل الطائفة القائمة على الحق، التي قد تضيق وقد تتسع لكنها لا تنقطع، فهي التي تشكل خميرة النهوض والتي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله:
( لا تَزَالُ طَـائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ) (أخرجه مسلم).
وهذه القيم المحفوظة الخالدة كانت ولا تزال تشكل الإمكان الحضاري للأمة القادرة على الإنتاج، في كل زمان ومكان، والتصويب وإصلاح الخلل
[ ص: 9 ] على جميع المستويات، فالعقائد أقوى من الفلسفات، والقيم والمبادئ أسمى وأصدق من السياسات، والأمم أبقى من الدول والحكومات.
فالدولة دائلة، والأمة باقية، لذلك كان محل النبوات تاريخيًا الأمة والمجتمع والإنسان وليس الدولة والسياسة، فلم تخرج الدولة في النهاية عن أن تكون إحدى وسائل الدعوة.
إن توقف امتداد الحكم الراشد وانتقاض عروة الحكم بعد أنموذج الخلافة الراشدة -ولعل ذلك سنة ماضية في الحياة، فالأنموذج يصعب تكراره وإنما يبقى محلًا للمقاربة والمقارنة والمثاقفة والمفاكرة- وانفصال السلطان عن القرآن، أو انعزال مؤسسة السلطان عن مجتمع القرآن، والانتهاء إلى الملك العضوض أدى بشكل طبيعي إلى توقف الفقه السياسي عن الامتداد بموازاة الفقه التشريعي، حيث تحكمت شهوة الحكم، فـ(آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرئاسة، كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي، رحمه الله)، وكان الصراع على الحكم والمغالبة عليه وكان فقه المسوغات والذرائع هو الفقه السائد والشغل الشاغل للكثير في مجتمع المسلمين، شأن المجتمعات البشرية الأخرى، الأمر الذي لم يَحُلْ دون امتداد الحضارة والثقافة والتشريع والأمة والمجتمع، كما أسلفنا.
وبالإمكان التأكيد أن الفقه السياسي لم يمتد بالشكل المأمول، وأنه في معظمه نشأ في ظل أنظمة السلطان، التي لم تعد تضطلع بالشكل المطلوب بالحاكمية الإسلامية، وتتأسى بالحكم الراشد، وتلتزم سنة الخلفاء الراشدين في تطبيق الشورى في اختيار الحاكم والشورى في إدارة شؤون الحكم،
[ ص: 10 ] ولذلك تمحور في معظمه حول فقه مشروعية الحكم بالغلبة، وجواز التوريث، ووجوب طاعة ولي الأمر، دون مناقشة وجوب الشورى في اختيار الحاكم وكفاءته واعتماده الشورى في إدارة شؤون الحكم، ودون مناقشة التزام الحاكم بقيم الحكم في الإسلام، التي بها يكون ولي الأمر الواجب الطاعة:
( اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ ) (أخرجه البخاري) ، وفي روايـة:
( ... وإن أُمِّر عليكم عبدٌ حَبَشيٌّ مُجَدَّعٌ، ما أقام فيكم كتاب الله ) لذلك فقد لا يكـون مستـغربًا تغييب أو غياب ضوابط الطاعة ومقوماتها الشرعية وخصائص وصفات الأمر وممارسات ولي الأمر؛ لأن البحث في ذلك قد يغضب الحاكم.
والمحور الثاني، الذي امتد فيه الفقه السياسي، ولعله من لوازم الأول واستحقاقاته، هو فقه تحريم الخروج على الحاكم، الأمر الذي أدى إلى تنـزيل الأحكام الشرعية على غير محالها، حيث لم يعد يرى فقهاء السلطان تاريخيًا في الخروج على الحاكم إلا الخروج المسلح، شأن فقهاء السلطان في كل زمان ومكان، علمًا بأن هذه الفتاوى والأحكام ليست جديدة ولا طارئة على أهل الدين الخاتم، وإنما هي من علل التدين، التي قد تكون انتقلت إلينا من الأمم السابقة، حيث يتحالف الطاغوت (الاستبداد السياسي)، مع الجبت (الكهانات الدينية) التي تعطي المسوغ للاستبداد السياسي وتحرِّم عصيانه والخروج عليه أمام الجماهير التي قد تكون (أُهلكت إرادتها بالطاغية).
ومن الإنصـاف القـول، والأمـة لا تجتمـع على ضلالة
( إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ ) (أخرجه ابن ماجه): إنه لم يخل زمن أو عصر من
[ ص: 11 ] علماء عدول مجاهدين، يحملون العلم وينفون عنه نوابت السوء - وهذا من لوازم الخاتمية وتوقف التصويب والتجديد من الوحي - يعتزلون مؤسسة الحكم، ويحملون النصح، ويجهرون بكلمة الحق، ويحمون الجماهير من فساد مؤسسة الحكم، ويوازنون بين المصالح والمفاسد في التعامل مع مؤسسة الحكم.
لذلك نرى أن الفقه السياسي أو الفقه المصطلح عليه بـ"السياسة الشرعية" والذي يشكل رصيدنا الثقافي في مجال الحاكمية لا بد أن يُنظر إليه ويحكم عليه من خلال سياقه التاريخي والظروف والملابسات التي أحاطت به، وقد يكون في معظمه تمحور حول قاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، فهو بعمومه فقه درء المفاسد، وأنه في النهاية اجتهادات بشرية غير ملزمة، كسائر الاجتهادات، يؤخذ منها ويرد، خاصة بعد أن تطورت الأدوات والوسائل البشرية في أشكال المعارضة والمواجهة والمناصحة بحسب ظروف كل زمان ومكان، في بناء أنظمة الحكم، فالبعض يُحرِّم الخروج ويُوجب الطاعة بإطـلاق ومهما كانت الظروف، والبعض الآخر لا يرى إلا الخروج والمواجهة مهما كانت النتائج؛ ونمط الوسطية والعـدل ما يزال غائبًا بالأقدار المطلوبة عن المعادلة السياسية.
إن التوهم بأن الخروج على الحاكم يعني أو يقتصر على الخروج المسلح، الذي يُدخل الأمة في متاهات مجهولة، ومفاسد لا حدود لها، والحكم عليه بالتحريم فيه الكثير من التدليس والالتباس والتكريس لحكم الفساد والاستبداد ولجم الجمهور بأحكام شرعية غالبًا ما تصدر عن فقهاء السلطان، سدنة السلطة السياسية أو السلطة المالية، الذين يضعون المسوغات
[ ص: 12 ] وينتقون الأحكام الشرعية لتبرير عمل الحاكم، ومن ثم تتحول القضية عندهم إلى لون من الدفاع عن النفس، علمًا بأن وسائل وأدوات النقد والمراجعة والمناصحة والمظاهرة والمناظرة والإعلام أصبحت أشد تأثيرًا من الخروج المسلح، وأقل خطورة وضحايا.
وكم نحن بحاجة إلى تطوير وسائلنا في المناصحة والنقد والمراجعة واستخدام الصحافة والإعـلام والتي أصبحـت تسمى بـ: "القوة المرنة" أو "الناعمة"، والتحول من المواجهة إلى الحوار والمجادلة وبيان الخلل والفساد، والإفادة مما وصل إليه (الآخر) في تسديد مسيرة الحكم، والحيلولة دون الخروج والمواجهات المسلحة، التي لم تحمل لنا خيرًا على مدار التاريخ.
وبذلك نتخلص من عمى الألوان، فلا نرى إلا إمّا الخروج المسلح بكل مخاطره ومفاسده فنحرمه بحسن نية أو بسوء نيه، وإما التستر والسكوت والاستسلام، الذي يكرس الفساد ويؤلِّه الحاكم ويعصمه عن الخطأ(!)
ولا شك أن الاستبداد السياسي (الطاغوت) وسدنته من فقهاء فتاوى السلطان والكهانة الدينية (الجبت)، أي التحالف بين الجبت والطاغوت انتهى في كثير من المواقع إلى ألوان من القهر والكبت والضغط واليأس، الذي دفع بالكثير إلى عدم الثقة بالمؤسسة الدينية، فأدى إلى الارتماء والافتتان بـ (الآخر)، كما ولّد في الداخل الإسلامي انفجارات ومواجهات مسلحة، كرد فعل، وُظِّفت لها الكثير من الأحكام الشرعية وأُسقطت على غير محالها، فكانت المخاطر أكبر وأشد، خاصة عندما حكم الأفراد بتكفير الحكام وإخراجهم من ربقة الدين، الأمر الذي دفع بعض الشباب المتحمس للقيام
[ ص: 13 ] بمجازفات ومواجهات كانت السبب في الكثير من البلاء، الذي لحق بالعاملين للإسلام، والتشويه لقيم الإسلام وصورة العمل الإسلامي.
فلقد أباح الأفراد لأنفسهم أن يحلوا محل الدولة، وأعطوا لأنفسهم الحق في ممارسة وظائفها، وبدأوا تسويغ أعمالهم بفهم عليل وفقه سقيم وتدين مغشوش للأحكام الشرعية المتعلقة بالحكم واستحقاقاته فوقعوا بما لا يقل سوءًا وخطورة عن فتاوى فقهاء السلطان، لذلك ذهب الكثير من أهل العلم إلى تحريم الخروج على الحاكم ولو تفاقم انحرافه، خاصة إذا كان الخروج عليه سينتهي بالأمة إلى الفوضى بسبب ما يمكن أن يكون من الممارسات الخطيرة للأفراد والجماعات، الذين أعطوا أنفسهم حق الاضطلاع بمهام ووظائف الدولة.
وقد لا يتسع المجال في هذا التقديم لبسط القول في إشكالية الحاكمية واستحقاقات الحكم الراشد، وقد تناولت مقومات الحكم الراشد واستحقاقاته بشيء من التفصيل في رسالة "الحاكمية في الإسلام.. بين المدني والديني" طباعة ونشر "المكتب الإسلامي" في بيروت، لبنان.
فالسياسة الشرعية، التي أصبحت أحد أبواب الفقه، في معناها العام، هي فن الإدارة، وهي منهج العمل؛ والمنهج يعني - فيما يعني - علم الطريق الموصل إلى الهدف؛ والسياسة الشرعية هي السياسة والاجتهاد المنطلق من القيم الإسلامية في الكتاب والسنة وتطبيقاته في السيرة والخلافة الراشدة؛ والضابط الأساس لها أن تكون الأهداف مشروعة، والوسائل الموصلة لتحقيق الأهداف مشروعة.
[ ص: 14 ]
والسياسة الشرعية لا تقتصر على مؤسسة الحكم، وإن كانت تتمحور غالبًا حولها بشمولية وظائفها، وإنما هي بشكل عام فقهٌ بالنوازل والمتغيرات وكيفية التعامل معها من خلال مرجعية شرعية، واجتهادٌ يأخذ باعتباره ظروف الزمان والمكان وموازنة المصالح والمفاسد، التي تتطور وتتغير وتتطلب الاجتهاد لمواجهة المتغيرات والحوادث الجديدة، التي لا تتناهى، حيث لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان؛ ولعلنا نقول: إن السياسة الشرعية في بعض جوانبها وموضوعاتها من فقه النوازل، الذي يتطلب فقهًا للنص ومقاصده، وفهمًا للواقع ومكوناته، وعلمًا بالممكن والمستطاع في بيان حدود التكليف.
وبعد:
فهذا الكتاب: في أصله رسالة علمية أكاديمية، يمكن اعتباره مساهمة مقدورة في استدعاء جوانب من الفقه السياسي في تراثنا، تناول أحد الأعلام الكبار والأئمة المجتهدين العظام، الذين جمعوا بين فقه النص الشرعي والدراية بأبعاد الحاكمية في الإسلام وفهم الواقع البشري، وفقه الإدارة، وموازنة المصالح والمفاسد، والاجتهاد في وضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة، وكيفية تعاملها مع النوازل والأزمات الكبرى وإشكاليات الحكم والدولة، وتقديمه كأنمـوذج للنظر والاجتهاد ودقـة الاستـدلال وإبصار المصالح والمفاسد في التعاطي مع السياسـة، كنظام لإدارة الدولة، والاضـطلاع بوظـائفها، وما يتطلب من فقه شرعي يحول دون جنوحه عن الجادة.
ويبقى المطلوب قراءة آراء واجتهادات هذا الإمام الكبير، وغيره من أئمة الفقه والاجتهاد، في ضوء السياق التاريخي، الذي تولدت فيه والنوازل
[ ص: 15 ] التي لحقت بالدولة والأمة المسلمة، وكيفية التعامل معها، ومحاولة استصحاب ذلك الفقه وتلك البصيرة لإغناء رؤيتنا الشرعية في التعامل مع الدولة والمجتمع والعصر.
إن دراسة هؤلاء الأعلام، والتجسير بينهم وبين الجيل يفتح آفاقًا رحبة وواسعة، ويجنب هذا الجيل الكثير من المخاطر والمجازفات، ويحصنه بالأحكام والآداب الشرعية، التي تتميز بها الحاكمية في الإسلام، ويدعوه للاعتزاز بتاريخه الفقهي والثقافي؛ والارتكاز إلى تراثٍ فقهي عظيم يتطلب توفير مؤهلات الوراثة والامتداد لإحياء مواريث النبوة والخلافة الراشدة، كأنموذج للحاكمية في الإسلام، وتحقيق خلود النبوة بالتجديد والاجتهاد، وذلك بتجريد الأحكام الشرعية من ظرف الزمان والمكان، وامتلاك القدرة على توليدها في كل زمان ومكان.
فكم نحن بحاجة إلى مثل هذه الدراسات لبناء الملكة الفقهية والانضباط بدقة النظر وموازين الحق والعدل والإنصاف قبل المجازفة في إصدار الأحكام، وقبل المحاولة في الإفادة من (الآخر) بشكل أعشى وبدون معيار يمكننا من إبصار ماذا نأخذ وماذا ندع.
فجزى الله الباحث خيرًا، وأمكنه من طباعة أصل الرسالة، ووضعها في متناول الدارسين والباحثين ونفع بها.
والحمد لله من قبل ومن بعد.
[ ص: 16 ]