الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                معلومات الكتاب

                فقه السياسة الشرعية (الجويني أنموذجا)

                الدكتور / عمر أنور الزبداني

                المسألة السادسة عشرة: التوظيف المالي على الأغنياء [1] :

                هذه المسألة من مبتكرات الجويني، وبحثها يكون وفق حيثيات ثلاث:

                الأولى: تفريق وتعريف:

                لا بد من التفريق بداية بين مسألة التوظيف على الأغنياء، والمسألة التي سبق الحديث عنها؛ فمسألة توظيف الأموال منشؤها مغاير لمنشأ مسألة [ ص: 151 ] العجز المالي؛ وذلك أن هذه الأخيرة منشؤها نفاد بيت المال، بحيث لم يعد ثمة أموال تفي بحاجات المسلمين الواقعة أو المتوقعة؛ والحكم فيها خاضع لمنهج فروض الكفايات.

                أما التوظيف المالي فليس منشؤه عجزا ماليا في بيت المال، وإنما منشؤه أساسا الأخذ بالاحتياط، وجعل الدولة على أهبة الاستعداد، لمواجهة أي طارئ، والحكم فيها وجوب توظيف الأموال على جميع المقتدرين ماليا، قدرا محددا من المال، كل بحسب ما يملك. والمستخلص من كلام الجويني في هذا الخصوص أن (التوظيف) يعني: إعطاء المشروعية للدولة أن تفرض التزامات مالية على الثروات والممتلكات الخاصة [2] .

                الثانية: مقدمات وأسباب:

                يذكر الجويني بعض المقدمات والأسباب التي تستدعي توظيف الأموال، تتلخص في التالي:

                أولا: اتساع رقعة الإسلام، وكثرة القائمين على تسيير شؤون دولته، حفاظا عليها داخليا، ونشرا لدعوتها خارجيا؛ إذ إن موارد الدولة لا تسمح بتغطية كل هذه النفقات، ما يجعل توظيف أموال على الأغنياء مطلبا شرعيا، ما دام الأمر محققا لمصلحة المسلمين.

                ثانيا: أن وارد الدولة من المغانم والفيء لا يفي باحتياجات بيت المال، فضلا عن أن أمر هذه الواردات غير ثابت ولا مستقر. وعبارات الجويني التي [ ص: 152 ] تقرر هذا النظر عديدة؛ من ذلك قوله: "فالغالب أن ما يتفق من أخماس الغنائم لا يقيم الأود، ولا يديم العدد؛ فإنا كما نصيب نصاب" [3] ، وقوله: "لا تقوم المملكة بتوقع الاغتنام، ولا بد للإمام من الاعتصام بأوثق عصام".

                ثالثا: أن إمام المسلمين مأمور بالأخذ بالاحتياط والتأهب والاستعداد بأقصى العدد والعدد؛ لحفظ الأمة من أي اعتداء أو اختراق، سواء أكان الاعتداء والاختراق من الداخل أم من الخارج.

                رابعا: أن دولة الإسلام إذا هوجمت من قبل المتربصين بها، فإن الناس سيضطرون إلى دفع شرهم بكل ما يملكون من غال ورخيص، لكن لو كانت أوضاع بيت المال معدة لمواجهة هذه الواقعة، لما اضطر الناس إلى بذل أموالهم، ولحفظوها من الهلاك والسلب. يقول الجويني: "ولو تقدمنا بوجه الرأي، لظننا أن الأمور في استتبابها تجري على سنن صوابها".

                خامسا: لو فرض عدم وجود إمام يقوم بأمر المسلمين، لاحتاج الناس أن يقيموا حراسا يحرسونهم في أنفسهم وأموالهم، ولاستدعى الأمر منهم أن يدفعوا لهم أضعاف ما سيدفعونه للإمام [4] .

                من أجل ذلك، كان "لا بد من توظيف أموال يراها الإمام قائمة بالمؤن الراتبة، ومدانية لها. وإذا وظف الإمام على الغلات، والثمرات، وضروب [ ص: 153 ] الزوائد والفوائد من الجهات يسيرا من كثير، سهل احتماله، ووفر به أهب الإسلام وماله، واستظهر رجاله، وانتظمت قواعد الملك وأحواله". فالغرض من التوظيف إذن: انتظام أمر دولة الإسلام، واستقرارها اقتصاديا وأمنيا.

                إذن، توظيف أموال على الأغنياء حكم قطعي لا مرد عنه؛ ومنشأ هذه القطعية أن الحفاظ على الدولة مقصد أساس للحفاظ على كليات الشريعة، فإذا تداعت تلك الدولة تداعت بتداعيها تلك الكليات، فكان الحفاظ على الدولة وحمايتها طريقا متعينا للحفاظ على تلك الكليات، والحفاظ على الدولة لا يتحقق ولا يكون إلا بالاستعداد بأنواعه كافة، والمال نوع من أنواعه، فيكون التوظيف على الأغنياء أمرا متعينا. وعبارة الجويني تقول: "الذي ذكرناه أمر كلي، بعيد المأخذ من آحاد المسائل".

                ويدعم الجويني هذا الاستدلال الكلي على وجوب توظيف أموال على الأغنياء، باستدلال جزئي مجمع عليه، هو فعل عمر، رضي الله عنه، حين وظف الخراج على أراضي العراق، وقد لاقى فعله من الصحابة، رضي الله عنهم، قبولا، فكان ذلك إجماعا على مشروعية التوظيف.

                والتوظيف إنما يكون على المداخل، والمحاصيل، والتجارات، وبحسب الجويني "على الغلات، والثمرات، وضروب الزوائد، والفوائد من الجهات" [5] ، وهذا يشمل الدخل الذي يكسبه الإنسان من عمله، ويشمل الثروات التي يملكها، كالأراضي والمصانع والمحال التجارية، ونحو ذلك. [ ص: 154 ]

                الثالثة: مجالات التوظيف:

                أما المجالات التي تصرف فيها الأموال الموظفة على الأغنياء، فهي ثلاثة:

                أولا: الجهاد، سواء أكان دفاعا عن الدولة داخليا وخارجيا، أم كان دعويا؛ نشرا لدين الإسلام، فإنه "يتحتم استظهار الإمام بالأعوان والأنصار، فلا بد من الاستعداد بالأموال".

                ثانيا: القيام بسد حاجات المشرفين على الضياع، في حال لم تف الزكوات والموارد الأخرى بسد حاجاتهم.

                ثالثا: تأمين مصالح المسلمين من الطرق والمياه وحاجات المسلمين الضرورية؛ يرشد لهذا قول الجويني: "لا بد من توظيف أموال يراها الإمام قائمة بالمؤن الراتبة".

                والحاصـل، أن التوظيـف ليس حكما له صفة الديمومة والثبات، وإنما هو حكم منوط بوضع بيت المال، توفرا ونفـادا؛ فإذا توافر مال يفي بحاجات دولة الإسلام الواقعة أو المتوقعة، كان على الإمام أن يوقف العمل بآلية توظيـف الأموال، وإن نفدت الأموال من بيت المال، أو كانت موجودة لكنها لا تفي بحاجات الدولة الواقعة أو المتوقعة، فالمتعين العمل بتلك الآلية [6] . [ ص: 155 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية