الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                معلومات الكتاب

                فقه السياسة الشرعية (الجويني أنموذجا)

                الدكتور / عمر أنور الزبداني

                المبحث الأول

                مشروعية الإمامة

                النقاط الأساسية التي تناولها الجويني في هذا المبحث، تتمحور في أربع نقاط: في معنى الإمامة؛ وفي حـكم نصب الأئمة؛ وفي الرد على من قال: إن نصب الأئمة غير واجب؛ [ ص: 59 ] وفي بيان أن وجوب الإمامة ثابت بالشرع، وليس بالعقل.

                بخصوص النقطة الأولى، عرف الجويني الإمامة، بأنها "رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا، متضمنها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الجنف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين" [1] .

                أما ما يتعلق بحكم نصب الأئمة، فإن الجويني يقرر أن "نصب الإمام عند الإمكان واجب". وينقل رأي من يرى أن نصب الأئمة غير واجب، وأنه يجوز ترك الناس من غير إمام [2] . ويرد الجويني هذا الرأي بإجماع من سلف من هذه الأمة، حيث أجمعت الأمة على وجوب نصب الأئمة، بدءا من الصحابة، رضي الله عنهم، ومرورا بالتابعين، وانتهاء بمن جاء بعدهم. ويقرر الجويني أن وجوب نصب الإمام واجب بالشرع، وليس بالعقل؛ ويستدل لهذا الوجوب بأدلة ثلاثة: عمل الصحابة، والقياس، والعقل.

                أما الدليل الأول وهو عمل الصحابة، فهو أنهم "رأوا البدار إلى نصب الإمام حقا، فتركوا - لسبب التشاغل به - تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه؛ مخافة أن تتغشاهم هاجمة محنة" [3] ، فعمل الصحابة، رضي الله عنهم، ومبادرتهم إلى نصب إمام عليهم، لو لم يكن أمرا شرعيا لما بادروا وأسرعوا لاختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدل مجمل سلوكهم في هذا الشأن على أن نصب الأئمة واجب بالشرع، وليس بالعقل.

                أما دليل القياس، فهو أن "الأديان والملل والشرائع والنحل أحوج إلى الأنبياء المؤيدين بالمعجزات، والآيات الباهرات، منها إلى الأئمة، فإذا جاز خلو الزمان عن النبي - وهو معتصم دين الأمة - فلا بعد في خلوه عن الأئمة" [4] ، وجه الاستدلال بهذا القياس، أنه ما دام يجوز خلو الزمان عن الأنبياء، فجـواز خـلوه عن الأئمـة أولى، ولازم هذا الجـواز، أن العقل [ ص: 60 ] لا يوجب القول بوجوب نصب الأئمة، بل مرجع ذلك الوجوب إلى الشرع دون العقل؛ إذ هو الذي يقضي بوجوب ذلك.

                أما دليل العقل فحاصله: أن حماية ديار الإسلام والدفاع عنها واجب شرعي، ولو ترك الناس من غير إمام يسوسهم، لأوشك أن يتهدد الخطر ديار الإسلام، ولعمت الفوضى بين العباد؛ لأجل هذا، أوجب الشرع نصب الأئمة؛ لدفع التنازع والتخاصم بين الناس، وإشاعة النظام والأمن في البلاد، ودفع المعتدين والمتربصين بالإسلام وأهله.

                بهذه الأدلة الثلاثة، أثبت الجويني أن وجوب نصب الأئمة واجب بالشرع لا بالعقل؛ إذ لو كان نصب الأئمة واجبا بالعقل، "لم نبعد أن يهلك الله الخلائق، ويقطعهم في الغوايات على أنحاء وطرائق، ويغمسهم في غمرات الجهالات، ويصرفهم عن مسالك الحقائق".

                وعلاوة على ما تقدم، فإن الجويني يبني حكم هذه المسألة على مقاصد الشريعة، وذلك واضح في أثناء تقريره لوجوب نصب الأئمة؛ حيث اعتبر أن نصب الأئمة واجب، كي يستقيم أمر دولة الإسلام؛ إذ لو "ترك الناس فوضى، لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم وازع ... لانتثر النظام، وهلك العظام، وتوثبت الطغام والعوام ... " [5] . [ ص: 61 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية