الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                معلومات الكتاب

                فقه السياسة الشرعية (الجويني أنموذجا)

                الدكتور / عمر أنور الزبداني

                المبحث العاشر

                الخروج على الإمام

                لم يحدد الجويني مفهوم (الخروج) على الإمام تحديدا فقهيا منضبطا [1] ، وغاية ما فعله أنه أتى على موضوع الخروج في مواضع متفرقة من "الغياثي"، وفي سياقات مختلفة. والمستنتج من كلامه حول هذه المسألة الشائكة، أن الإمام إذا كان مستجمعا لصفات الإمامة، فلا يجوز بحال الثورة عليه؛ إذ لو جاز ذلك لما استقر للإمامة مبنى، ولما صح لمنصب الإمامة معنى.

                والدليل على عدم جواز الخروج عليه، هو أن الإمامة عقـد بين الأمة من جانب، والإمـام من جانب آخر، والأصل في العقود أن تكون لازمة، ولا يجوز فسخها إلا بما يوجب الفسخ؛ والخروج على الإمام من غير سبب يقتضيه، يعد ظلما وتعديا لحدود الشرع، الذي أوجب الالتزام بالعقود، وأوصى بالإيفاء بمستحقاتها.

                وأيضا، فإن الإمامة لا تحقق مقصودها، ولا تؤتي ثمارها المرجوة من عقدها إلا بالقول بلزومها؛ والخروج على الإمام ينافي المقاصد التي شرعت [ ص: 104 ] الإمامة لأجلها، ويؤدي إلى انتشار الفساد في البلاد، وعموم الفوضى بين العباد؛ إذ إن عقد الإمامة لو ترك مصيره لأهواء الناس ورغباتهم "لما استتب للإمام طاعة، ولما استمرت له قدرة واستطاعة، ولما صح لمنصب الإمامة معنى"؛ فلأجل هذه المعاني، كان عقد الإمامة عقدا لازما، لا يجوز فسخه بغير موجب للفسخ.

                بيد أن الجويني يقرر أن الإمام "إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة، واستجرأ الظلمة، ولم يجد المظلوم منتصفا ممن ظلمه، وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور، وتعطيل الثغور، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم" [2] ؛ واستدراك الأمر يعني تنحية من كان شأنه كذلك، ونصب إمام جديد مستوف لشروط الإمامة.

                ومع أن الجويني لم يقل بصريح العبارة: إن أهل الحل والعقد هم وحدهم المنوط بهم عزل الإمام الفاسق وتنحيته، لإصلاح الوضع الذي آلت إليه شؤون الإمامة، بيد أن ما جاء في تضاعيف كلامه، يساعد على هذا الاستنتاج والقول به. وهذا هو الذي تقتضيه أصول الإمامة وقواعدها.

                لكن - بالمقابل- يقرر الجويني أن الأفراد لا مدخل لهم، وليس من صلاحياتهم القيام بمهمة التغيير هذه، ولا شأن لهم بمنازعة الإمام مهما كان [ ص: 105 ] حاله. ومن تصريحاته في ذلك، قوله: "فلا نطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا، فإنهم لو فعلوا ذلك، لاصطلموا وأبيروا، وكان ذلك سببا في زيادة المحن، وإثارة الفتن"؛ بل إنه اعتـبر أن من يثور على أميره على غير بصيرة، لا يكون سائرا على هدي دينه، فيقول: "فلا يثورون على الأمراء من غير بصيرة دين" [3] .

                أما تعليل الجويني لهذا المنع، فسببه ما يترتب على هذه الثورة من فساد ونزاع قد يربو على ما هو عليه الحال، يقول في بيان ذلك: "ونهينا الرعايا عن الاستقلال بالأنفس من قبيل الاستحثاث على ما هو الأقرب إلى الصلاح والأدنى إلى النجاح؛ فإن ما يتولاه السلطان من أمور السياسة أوقع وأنجع، وأدفع للتنافس، وأجمع لشتات الرأي؛ وفي تمليك الرعايا أمور الدماء، وشهر الأسلحة وجوه من الخبل، لا ينكرها ذو العقل". ويعلل هذا المنع في موضع آخر بقوله: "وإنما لم يجعل لآحاد الناس شهر السلاح ... لما فيه من نفرة النفوس، والإباء والنفاس، والإفضاء إلى التهارش والشماس" [4] [ ص: 106 ] .

                ويقرر الجويني طريقا آخر لعزل الإمام المستوجب للخلع، وهو أنه "إن اتفق رجل مطاع، ذو أتباع وأشياع، ويقوم محتسبا، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وانتصب لكفاية المسلمين ما دفعوا إليه، فليمض في ذلك قدما" [5] .

                وهذه الصورة التي يفترضها الجويني تدل على أن الذي يتولى عملية التغيير هو رجل، لكنه ليس رجلا عاديا، بل رجل ذو شوكة واعتبار، فمثل هذا يكون من صلاحيته القيام بعملية التغيير؛ لما يستند إليه من قوة اجتماعية وسياسية، تؤهله للقيام بمثل هذه المهمة. بيد أن قيام ذي الشوكة والمنعة بالتغيير والثورة مشروط بأن يكون في قيامه مصلحة ظاهرة للمسلمين.

                - مكانة الشوكة عند الجويني ودورها في تغيير السلطة السياسية:

                المستفاد من قراءة فقه مسألة (الشوكة) عند الجويني، أنه يعيرها اهتماما منقطع النظير، ويكاد يجعلها العنصر الأهم في عملية تعيين الإمام وعزله. ينبئ بهذا أنه يرى أن الإمام إذا كان مستـوفيا لشروط الإمامة، ولـم يطرأ عليه ما يستوجب عزله، بيد أن (شوكته) قد ضعفت؛ فإنه يجب عزله.

                كذلك، فإن للشوكة دورا رئيسا في عملية خلع الإمام، بحيث يتوقف خلعه عليها وجودا وعدما؛ وذلك: أن الإمـام إذا وجب خلعـه لملابسته ما يستـوجب الخلع، نظر: فإن لم تكن له شوكة يدفع بها ما يراد به، تعينت المسارعة من أهل الحل والعقد لعزله. أما إن كانت له شوكة، فينظر [ ص: 107 ] أيضا في مـآل هـذا الخـلع على أساس المصـالح والمفاسد المترتبة على هذا الخلع [6] .

                والمستبد بالشوكة والقوة - بحسب الجويني - يكون على ثلاث صور:

                الصورة الأولى: أن يستولي على الإمامة صالح لها: وحاصل كلام الجويني حول هذه الصورة، أن المستولي إن كان استيلاؤه على الإمامة من غير بيعـة ولا حاجة ولا ضـرورة، فلا يكون إمـاما، ولا ينبغي تقريره. أما إن كان استيلاؤه لحاجة، ثم زالت تلك الحاجة، لكنه بقي مستمرا ومستبدا بالإمامة، فلا ينبغي مبايعته؛ لأنه متعد. وإن استولى لحاجة، وكانت محاولة دفعه تجر مفاسد، تزيد على حال إقراره، وكان في إقراره استقامة الأمر، كان الواجب تقريره.

                الصورة الثانية: أن يستولي على الإمامة كاف ذو شوكة، غير مستوف لشروط الإمامة. وهنا ينظر: إن نصب أهل الحل والعقد كافيا، فهذا يقوم مقام الإمام في تمهيد قواعد الدين، والقيام بأمور المسلمين. وإن استولى هذا الكافي بقوته، من غير نصب واختيار، وقام بالذب عن ديار الإسلام، فالحكم فيه ينقسم بحسب الصورة السابقة. [ ص: 108 ]

                الصورة الثالثة: أن يكون المستولي كافيا بالشوكة، ولا يشاركه أحد. يقرر الجويني هنا، أنه إن استولى واحـد كاف ذو شـوكة على الإمامة، ولم يوجد غيره متصفا بذلك، فيتعين تقريره. والدليل على وجوب إقراره، أن القائم على أمر المسلمين في مثل هذا الظرف، إنما هو بمثابة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ومن المجمع عليه أن لآحاد الناس أن يأمروا بوجوه المعروف، ويسعوا في إغاثة وعون كل محتاج وملهوف. وإذا كان الشأن كذلك على مستوى الأفراد، فمن باب أولى أنه يجب على من تعين للإمامة، أن يقوم بهذا الواجب خير قيام.

                بيد أن الجويني وإن كان يسوغ لمن استولى بالشوكة والقوة، وكان متفردا بالكفاية، أن يستولي على مقاليد الأمور، من غير اشتراط عقد أهل الحل والعقد له، إلا أنه يعود ليقرر بأن آحاد الناس لا يجوز لهم حمل السلاح لتغيير الأمور [7] .

                ويقدر الجويني صورة واقعة ومتوقعة، وهي أن يكون الإمام المستوفي لشروط الإمامة، قد وصل أمره إلى حال بحيث لم يعد له من الأمر شيء؛ وهذه الصورة كانت متحققة فعلا في عصر الجويني، حيث كان الخليفة مجرد رمز، لا يملك من الأمر شيئا، وكانت الأمور تقاد من قبل الولاة المعينين من قبل الخليفة، أو السلاطين الذين استولوا على الولاية بالقوة والشوكة، [ ص: 109 ] وفرضوا أمرا واقعا. فإذا كان الأمر كذلك، فالوجه عند الجويني أن تحقق شروط الإمامة، من غير أن يصاحبها قوة وشوكة، لا وزن لها؛ إذ كيف تستقيم أمور الدولة في ظل قيادة لا تملك من الأمر شيئا؟ وفي ظل وضع سياسي غير طبيعي، يجيز الجويني لمن يملك الشوكة التدخل استثناء من الأصل؛ تداركا لما هو أسوء [8] .

                خاتمة الفصل:

                اهتم هذا الفصل من الدراسة بعرض وتحليل تأصيل الجويني لفقه السياسة الشرعية المتعلق بالمؤسسة السياسة. فتناول بالعرض والتحليل عشر مباحث تتعلق بفقه هذه المؤسسة، كانت تلك المباحث وفق التالي: مشروعية الإمامة. تعيين الإمام/رئيس الدولة. صفات أهل الاختيار والعقد. صفات الإمام/رئيس الدولة. إمامة المفضول. عقد الإمامة لإمامين. واجبات الإمام/رئيس الدولة. الاستخلاف. الخلع والانخلاع. الخروج على الإمام.

                وليس يخفى أن المؤسسة السياسة في الإسلام لا تعمل منفصلة عن غيرها من مؤسسات الدولة الأخرى، بل تعمل في تناغم وتعاون معها. ومن أهم المؤسسات ذات الصلة بالمؤسسة السياسية المؤسسة العلمية. فلننظر في الفصل التالي كيف أصل الجويني فقه هذه المؤسسة، ومن ثم نتبين طبيعة العلاقة بين المؤسستين. [ ص: 110 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية