الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                معلومات الكتاب

                فقه السياسة الشرعية (الجويني أنموذجا)

                الدكتور / عمر أنور الزبداني

                المبحث الخامس

                إمامة المفضول

                يبين الجويني أن المراد بالفضل والأفضل في هذا الموضع، هو "الأصلح للقيام على الخلق بما يستصلحهم". فالفضل معتبر بالأصلح للقيام بشؤون الإمامة، والأجدر برعاية مصالحها.

                يقرر الجويني أن الأصل في الإمامة تقديم الأفضل لها، لكن إن كان في تقديم المفضول مصلحة ظاهرة، كدفع فتنة، أو كان الناس يميلون إلى ذاك المفضول، قدم مراعاة للمصلحة، دفعا وجلبا؛ "إذ الغرض من نصب الإمام استصلاح الأمة، فإذا كان في تقديم الفاضل اختباطها وفسادها، وفي تقديم المفضول ارتباطها وسدادها، تعين إيثار ما فيه صلاح الخليقة".

                فإذا وجد هذا الأساس في الفاضل، الذي تقوم الإمامة بناء عليه، تعين المصير إلى اختياره، ولا يجوز تقديم المفضول؛ لتحقق مقاصد الإمامة بالفاضل، بل يحرم تقديم المفضول مع إمكانية تقديم الفاضل؛ لأنه الأولى بالتقديم. فالمسألة مبناها ومدارها على تحقيق مصلحة الأمة.

                ويقيم الجويني لعنصر الشوكة في هذا المبحث اعتبارا خاصا، ويجعل له دورا مهما في اختيار الإمام، ولو كان مفضولا، انطلاقا من أن المقصد [ ص: 72 ] الأساس من إقامة الإمام تحقيق مقاصد الإمامة؛ يرشد لهذا الاعتبار للشوكة أنه إذا "اتفق تقديم المفضول واختياره، مع منعة تتحصل من مشايعة أشياع ومتابعة أتباع، فقد نفذت الإمامة نفوذا لا يدرأ".

                ولو اجتمع مرشحان للإمامة، أحدهما: أفقه، والآخر: أعرف بأمور السياسة، قدم منهما الأنسب لحاجات الوقت، والأجدر بمتطلبات الزمان والمكان؛ فإن كانت البدع والأهواء قد فشت في ديار الإسلام، كان تقديم الأفقه أولى بالاعتبار، وأجدر بالاختيار. أما إن كانت دولة الإسلام في حال مواجهة، فتقديم الأعرف بأمور السياسة وتدبير البلاد، هو الذي ينبغي المصير إليه. فالأساس الذي يقيم عليه الجويني فقه المسألة، إنما هو مصلحة الأمة قبل كل شيء، فحيثما وجدت فالحكم معها.

                والأمثلة على ذلك عديدة بخصوص هذه المسألة، من ذلك ما ذكره الجويني من أنه إذا تعسر عقد الإمامة للفاضل، لسبب من الأسباب، واقتضت مصلحة المسلمين تقديم المفضول، فالذي يتعين تقديم ما فيه مصـلحة الأمة. فالمعتبر مراعاة ما فيه صـلاح الخلق، وهـذا محل اتفاق بين المسلمين.

                ومثال آخر على الاعتبار المصلحي ما ذكره الجويني من أنه إذا تهيأ تقديم الفاضل من غير منازع، ولا منافس، فيجب القطع بإيجاب تقديم الأصلح؛ لأن مراعاة ما فيه صلاح الأمة هو الواجب اعتباره، وهو الذي يتعين المصير إليه عند إمكانه. [ ص: 73 ]

                ومن الأدلة على اعتبار النظر المصلحي، أنه لو اجتمع من هو مستوف لشروط الإمامة، وكان في غاية الورع، ووجد آخر معه أقل ورعا منه، لكنه أكفأ نظرا، وأجدر سياسة، فالأكفأ هو الأولى بالتقديم [1] ؛ لما في تقديمه من جلب مصلحة للأمة، ولما في تأخيره من دفع مصلحة عنها.

                وبعد أن ذكر الجويني في كتابه "الإرشاد"، مذهب أهل السنة القاضي بوجوب نصب الفاضل إلا أن يؤدي نصبه إلى فساد، فيجوز نصب المفضول؛ قرر أن المسألة غير "قطعية، ولا معتصم لمن يمنع إمامة المفضـول إلا أخبار آحاد في غير الإمامة ... ولا يفضي هذا وأمثاله إلى القطع".ـ

                وقد اعتمد الجويني في "إرشاده" أيضا على دليل القياس، ليؤيد مذهبه في أن إمامة المفضول هي من باب ترك ما هو أولى، وقاس إمامة المفضول في السياسة على إمامة المفضول في الصلاة؛ إذ لا قائل بعدم صحتها، وإن كان الأمر خلاف الأولى [2] . [ ص: 74 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية