الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                المبحث الثاني

                تعيين الإمام

                أسهب الجويني في الحديث عن الجهات التي تختار إمام المسلمين؛ وقرر أنه لو ثبت نص من الشارع بخصوص هذا التعيين لوجب المصير إليه، والتعويل عليه، أما وأنه لم يثبت نص قطعي في ذلك، فينبغي المصير إلى أمر آخر غير النص، لإثبات ما تتعين به الإمامة.

                والأصول الشرعية تفيد أن السبيل إلى هذا التعيين، إنما هو طريق الترشيح والاختيار، ممن هم أهل للاختيار والعقد. ويرى الجويني أن هذا الطريق كاف في عقد الإمامة.

                وقد فند الجويني أقوال القائلين: إن الإمامة ثبتت بالنص، وذكر أن الأخبار التي استندوا إليها إنما هي أخبار آحاد، لا ترقى إلى أن تكون دليلا قطعيا في المسألة، كما رد على بعض أهل السنة الذين ذهبوا إلى ادعاء النص على أبي بكر، رضي الله عنه، وخلص إلى بطلان مذهب القائلين بالنص. واعتمد في إبطال دعوى النص، والرد على القائلين به، منهج القياس العقلي، والحجاج المنطقي، وكان من جملة الأدلة التي أبطل بها دعوى النص مجريات الأحداث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث لم يدع الصحابة، رضي الله عنهم، [ ص: 62 ] نصا في التولية والإمامة، ولو كان ثمة نص في ذلك، لكانوا أول الخلق استمساكا به، والوقوف عنده [1] .

                والجويني رد النصوص التي تمسك بها القائلون بالتنصيص بأمرين اثنين:

                أولهما: أنها نصوص آحاد، لا تصلح مستمسكا ومستندا لمثل هذه المسألة الخطيرة.

                ثانيهما: أن تلك النصوص نصوص مجملة، ومحتمـلة لأكثر من معنى، ما يعني أنه لا يستقيم التعويل عليه، فيما شأنه أن يثبت بالدليل القطعي. وإذا بطلت دعوى النص، لم يبق متمسكا في تلك المسألة إلا فعل الصحابة، رضي الله عنهم، وقد ثبت عنهم أنهم لم يعولوا على نص في تلك المسـألة، بل عمدوا إلى الاختيار والبيعة. فثبت بفعل الصحابة أن الاختيار من أهل الحل والعقد هو المعول عليه في مسألة تعيين الإمام.

                والجويني إذ يستدل على أن الاختيار هو المعول عليه في تعيين الإمام، يقرر بين يدي ذلك أمرا منهجيا مهما، حاصله أن الإجماع هو الأساس الأهم لإثبات ما يمكن إثباته من مسائل السياسة الشرعية. وما دامت مسألة تعيين إمام للمسلمين قائمة على دليل الإجماع فإنه يأخذ على نفسه إثبات دليل الإجماع على منكريه، ويرى أن إثبات، دليل الإجماع مطلب مهم في هذا الشأن؛ لذلك يشرع في إقامة الدليل على حجية دليل الإجماع [2] . [ ص: 63 ]

                وقد قرر الجويني أن فعل الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، هو مستند الإجماع في مسألة تعيين الإمامة؛ وذلك أن تعيين الإمام في عهدهم كان سبيله الاختيار وعقد البيعة، وهو أمر لم يخالف فيه أحد من الصحـابة، رضي الله عنهم، وتلقته الأمة من بعدهم بالقبول على مدار العصور. وإذا ثبت دليل الإجماع، ثبت ما يستند إليه من مسائل، ومنها مسألة المبحث، وهي أن تعيين الإمام إنما يكون عن طريق الاختيار والعقد والبيعة، أما طريق النص فلا يعول عليه، ولا يعتد به في هذه المسألة [3] .

                واعتمد الجويني في الرد عـلى القائـلين بالنص على الإمام - إضافة لما تقدم -على قاعدة كلية مفادها: "أن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والإثبات ... ولا يتقابل قط أصلان، إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما، وتنتفي النهاية عن مقابله ومناقضه" [4] . ومقتضى هذه القاعدة في هذه المسألة، أنه إذا لم يثبت نص قطعي يعول عليه بشأن تعيين الإمام، وأن كل الأدلة التي استمسك بها القائلون بالنص إنما هي أدلة آحاد لا ترقى إلى مستوى القطع، فإن تلك الأخبار لا تصلح مستمسكا للقول بالتنصيص. [ ص: 64 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية