الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                معلومات الكتاب

                فقه السياسة الشرعية (الجويني أنموذجا)

                الدكتور / عمر أنور الزبداني

                المطلب الأول: التكييف الشرعي للدعوة إلى الله:

                يقرر الجويني في أكثر من مناسبة أن "إقامة الجهاد فرض على العباد"، ويقصد هنا الجهاد الدعوي لنشر دين الإسلام؛ إذ الجهاد "في وضع الشرع، مع استقرار الكفار في الديار، من فروض الكفايات". هذا هو الأصل في الجهاد الدعوي، وهو أن يكون فرضا على الكفاية، إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقي. وهذا الجهاد ماض إلى قيام الساعة. وهذا الأصل المقرر يتخصص ببعض الحالات، فيخرج الجهاد من كونه فرضا كفائيا، إلى كونه فرضا عينيا؛ وذلك إذا وطئ الكفار ديار الإسلام، فإنه يتعين على المسلمين كافة أن يهبوا للدفاع عن حرمات الدين [1] .

                ومن الحالات التي يتخصص فيها جهاد الكفاية، حال ما إذا عين الإمام فريقا من الناس للنفرة إلى جهاد الدعوة، فإن تعيينه لهذا الفريق أو ذاك ملزم لهم، وتكون الاستجابة من المعينين متعينة، ويكون الجهاد في حق المتعينين فرض عين بهذا التعيين، بعد أن كان فرض كفاية. والتعيين ينبغي أن يكون على منهج الرشاد [2] . وهذا الحكم مستنده مراعاة مقصد الدين، وتقديمه على مقصد النفس . [ ص: 158 ]

                ويتخصص فرض جهاد الكفاية أيضا، فيخرج من كونه فرضا كفائيا إلى كونه فرضا عينيا، في حال ما إذا كان الشخص مشاركا في جهاد الكفاية، وكان في حالة التحام مع العدو، فإنه في هذه الحالة إن آثر ترك الجهاد والانصراف عنه، فإنه لا يحل له ذلك؛ لأن ما كان في حقه فرضا على الكفاية ابتداء، قد أصبح متعينا بالملابسة والمشاركة انتهاء.

                وإذا كان جهاد الدعوة فرضا على الكفاية في حق عموم الناس، فهو في حق الإمام "بمثابة فرائض الأعيان؛ والسبب فيه أنه تطوق أمور المسلمين، وصار مع اتحاد شخصه، كأنه المسلمون بأجمعهم، فمن حيث انتاط جر الجنود ... بالإمام، وهو نائب عن كافة أهل الإسلام، صار قيامه بها على أقصى الإمكان به كصلاته المفروضة التي يقيمها".

                ويذهب الجويني إلى أن الجهاد الكفائي، لا يتعين بوقت محدد، بل تجب إدامته على حسب الإمكان. ويعبر الجويني عن ذلك بقوله: "فالمتبع في ذلك الإمكان لا الزمان". فإذا توافرت لدى الإمام الإمكانيات، فيجب عليه أن يقوم بدعوة الكفـار، ولا يتوقف عنـها إلا حـال كون الإمكانيات لديه لا تسمح بذلك. ويؤكد الجويني في هذا الصدد، أن أحرى فروض الكفاية بالمراعاة، وأولاها بالقيام فريضة الجهاد [3] ؛ لأنه بالحفاظ على هذه الفريضة تحفظ باقي الفروض، وبضياعها تضيع. [ ص: 159 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية