الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                المبحث الثامن

                الاستخلاف

                يستبين فقه السياسة الشرعية في هذا المبحث، في ضوء بيان المسائل المقطوع بها، والمسائل المظنونة، والمسائل المختارة، ودائما بحسب الجويني. ومن ثم ينساق الحديث هنا وفق التالي:

                أولا: المسائل المقطوع بها في مسألة المبحث:

                المسألة الأولى: الاستنابة عموما أمر لا بد منه؛ لأن الإمام "لا يتمكن من تولي جميع الأمور وتعاطيها، ولا يفي نظره بمهمات الخطة، ولا يحويها". وهذه القضية يقتضيها العقل، علاوة على الإجماع عليها.

                المسألة الثانية: "المقطوع به أصل التولية، فإنه معتضد متأيد بالإطباق والوفاق، والإجماع الواجب الاتباع، وفي الإجماع بلاغ في روم القطع وإقناع".

                المسألة الثالثة: الإمام "أولى بأن ينفذ توليته، ويعمل خيرته".

                المسألة الرابعة: المشروط في صفات الأئمة مشروط أيضا في المعهود إليهم، فيعهد "الإمام إلى مستجمع لشرائط الإمامة؛ نظرا للمسلمين، واستيثاقا في الدين". [ ص: 93 ]

                المسـألة الخامسـة: "أن تولية العهـد لا تثبت ما لم يقبل المعهود إليه العهد".

                المسألة السادسة: لو عين الخليفة على الترتيب، مذكورين صالحين للخلافة في أثناء حياته، فترتيبه صحيح ومعتبر ومتبع، وهو موضع اتفاق بين أهل الإسلام. ودليل هذه المسألة ما كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعيين أمراء جيش مؤتة [1] .

                المسألة السابعة: لا يشترط رضا أهل الحل والعقد في تولية العهد؛ فإذا ولى الإمام ذا عهد، فلا تتوقف صحة تلك التولية على رضا أهل الحل والعقد، سواء أكانت التولية حال حياة العاهد، أم بعد مماته.

                المسألة الثامنة: العهد بالخلافة، ممن هو ليس من أهلها، غير صحيح، ولا يعتد به؛ لأنه تصرف فيما ليس له.

                المسألة التاسعة: نيابة الإمام حال حياته نيابة عامة، وعلى وجه الاستقلال، غير جائزة؛ لما في ذلك من الجمع بين إمامين في وقت واحد، وهذا بالاتفاق.

                المسألة العاشرة: نيابة الإمام حال حياته، إذا كانت مشفوعة بمشاورته، وجارية تحت أنظاره، جائزة وسائغة [2] . [ ص: 94 ]

                ثانيا: المسائل المظنونة في مسألة المبحث:

                المسألة الأولى: "تصحيح تولية العهد من الوالد لولده، إذا ثبت بقول غير المولي استجماع المولى للشرائط المرعية فيه".

                المسألة الثانية: الوقت الذي يعتبر فيه قبول المولى بالعهد؛ هل يعتبر قبوله بموت المولي، أم يعتبر قبوله حال وفاته؟ ذكر الجويني قولين في المسألة.

                المسألة الثالثة: ينبني على المسألة السابقة، مسألة خلع المعهود إليه؛ فمن جعل القبول متوقفا إلى ما بعد الموت، جعل للمولي حق خلع المعهود، ومن جعل القبول حال الحياة، منع المولي من خلع المعهود إليه من غير سبب يقتضي ذلك الخلع، "وصير الإمام العاهد، كالإمام العاقد".

                المسألة الرابعة: لو عين الإمام غير مستوف لشروط الإمامة، لكنه علق التولية على استجماع شروطها، فالوجه عند الجويني "بطلان التولية، من جهة أنه أساء في الاختيار".

                المسألة الخامسة: لو قال الإمام: الخلافة بعد مماتي، لزيد وبعده إلى عمر، وبعده إلى خالد، فمات الإمام، أفضت الخلافة إلى زيد، فإن مات زيد ففي إفضاء الخلافة إلى عمر وخالد خلاف [3] .

                المسألة السادسة: شرط الاجتهاد فيمن يتولى الوزارة، لا يبلغ القول به مبلغ القطع؛ لأن مرتبة القائم بها لا تبلغ مبلغ الاستقلال في الأمر، فمن هذه [ ص: 95 ] الجهـة، لم يكن الاجتهاد فيه شرطا معتبرا على وجه القطع، وإنما على سبيل الظن [4] .

                المسألة السابعة: أن المستناب في الأمور التي لا تضبطها نصوص الشارع، وكان عظيم الوقع في وضع الشرع، كالقضاء مثلا، شرط الاجتهاد فيه موضع خلاف بين العلماء، وهو من قبيل المظنون الذي "لا يتطرق القطع إلى النفي والإثبات فيه".

                المسألة الثامنة: يتجاوز في الصفات الموجبة لخلع الأئمة، ما لا يتجاوز في الصفات الموجبة لخلع الولاة؛ لما في خلع الأئمة من اضطراب الأمور، وعموم الفوضى [5] .

                ثالثا: اختيارات الجويني في مسألة المبحث:

                المسألة الأولى: الإمام إذا ولى ذا عقد، فإن تنفيذ عهده لا يتوقف على رضا أهل العقد، لا في حياته، ولا بعد مماته.

                المسألة الثانية: الاجتهاد شرط فيمن يتولى الإمامة، وهذا الشرط مقطوع به عند الجويني.

                المسألة الثالثة: اشترط الجويني كون وزير التفويض الذي إليه تنفيذ الأمور إماما في الدين؛ لأنه قد "يعسر عليه مراجعة الإمام في تفاصيل الوقائع، وإنما يطالع الإمام في الأصول والمجامع، فإذا لم يكن إماما في الدين، لم يؤمن زلله في أمور للمسلمين". [ ص: 96 ]

                المسألة الرابعة: يشترط الجويني في وزير التنفيذ شرطين: أحدهما: أن يكون موثوقا به في أفعاله وأقواله، وأحواله. ثانيهما: أن يكون فطنا في فهم الأمور، وكيسا في القيام بالمهام المناطة به.

                وقد نبه الجويني بخصوص هذه المسألة على نقطتين اثنتين:

                أولهما: أنه ينبغي على الإمـام متابعة أمر مستنابيه، وتتبع أخبارهم فيما يأتون ويذرون، فإنه لو لـم يفعـل ذلك، "لكان معطلا فائدة الإمامـة، مبطـلا سر الزعامة ... فهو يرعاهم كأنه يراهم". ويشـير إلى أن أهم ما يحيط الإمام علما بأحوال المستنابين فتح بابه أمام المتظلمين، وأصحاب الحاجات.

                ثانيهما: أن الصفـات المعتبرة في الولاة، إذا طرأ عـليها من الأحوال ما لو كانوا عليها ابتداء، لما جاز نصبهم، "فوجه القول في طريانها عليهم، كوجهه في طريان الصفات المنافية لعقد الإمامة على الإمام"، مع ملاحظة أنه يغتفر من الأئمة في بعض الصفات المنافية، كالفسق الذي يجري مجرى العثرة، ما لا يغتفر من الولاة، فيمـا لو طرأ عليهم من الصفـات المنافية. أما الشروط المطلوب توافرها في المستنابين، فهي على الجملة الديانة والثقة والكفاية، فيما يناط بهم من مهام وأعمال [6] . [ ص: 97 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية