الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                معلومات الكتاب

                فقه السياسة الشرعية (الجويني أنموذجا)

                الدكتور / عمر أنور الزبداني

                ثانيا: الاستنارة بآراء العلماء أمر لا غنى عنه في حق الإمام المجتهد:

                يصرح الجويني بكل وضوح أن ولي أمر المسلمين وإن كان بالغا رتبة المجتهدين، فإن عليه ألا يتوانى في الاستضاءة بعقول العلماء، والرجوع إليهم؛ للاستفادة من آرائهم، فإن رأي الفرد مهما كان مصيبا، فإن رأي المجموع هو الأقرب إلى السداد والصواب، والأبعد عن الخطل والخطأ.

                يقرر الجويني فقه المسألة معتبرا أن على "الإمام المستجمع خلال الكمال، البالغ مبلغ الاستقلال ألا يغفل الاستضاءة في الإيالة وأحكام الشرع بعقول الرجال؛ فإن صاحب الاستبداد لا يأمن الحيد عن سنن السداد، ومن وفق الاستمداد من علوم العلماء كان حريا بالاستداد (الصواب). وسر الإمامة استتباع الآراء، وجمعها على رأي صائب ... ثم هو محثوث على استفادة مزايا القرائح، وتلقي الفوائد والزوائد منها، فإن في كل عقل مزية، ولكن اختلاف الآراء مفسدة لإمضاء الأمور".

                وبالرجوع إلى العلماء، والاستنارة بآرائهم ما يعود على مجموع الأمة بالنفع والفائدة، فيجمع كلمتها، ويحدد هدفها، ويسـدد وجهتها، بخلاف [ ص: 113 ] ما يكون عليه الحال فيما لو انفرد الإمام برأيه، ضاربا عرض الحائط بآراء العلماء الذين هم هداة الأمة. يقول الجويني في هذا الصدد: "فإذا بحث عن الآراء إمام مجتهد، وعرضها على علمه الغزير، ونقدها بالسبر والفكر الأصوب من وجوه الرأي، كان جالبا إلى المسلمين ثمرات العقول، ودافعا عنهم غائلة التباين والاختلاف، فكأن المسلمين يتحدون بنظر الإمام، وحسن تدبيره، وفحصه وتنقيره".

                ويستدل الجويني لهذا بالتوجيه القرآني، حيث طلب القرآن الكريم من الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو من هو- أن يستشير أصحابه في العديد من الأمور، وذلك قوله تعالى: ( وشاورهم في الأمر ) (آل عمران :159)، فإذا كان رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم مأمورا باستشارة الخواص من أصحابه، فإن "الحبر المشار إليه، والإمام المتفق عليه، ومن هو البحر الذي لا ينـزف، لا يبعد منه أن يستشير في آحاد الوقائع، ويستمد من نتائج القرائح، ويبحث بمجاذبة أطراف الكلام عن مآخذ الأحكام".

                على أن مكانة الحاكم السياسية والعلمية مهما بلغت لا تنافي استشارة العالم ومناظرته ومحاورته، ولا تنزل من قيمته، ولا تحط من قدره؛ ما دام المقصد الأساس من ذلك الوصول إلى الرأي الأقرب إلى الصواب، والأبعد عن الخطأ، ما يحقق مصالح الأمة؛ إذ المقصد العام من إقامة الأئمة، هو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح القائم عليه، وهو ولي أمر المسلمين. [ ص: 114 ]

                وإذا كان الجويني يؤكد على أن أمر الأمة لا يستقيم إلا أن يكون القائم على أمرها صاحب الكلمة الأخيرة، إلا أن ذلك لا يعني أن يكون الإمام مستبدا برأيه، ولا منفردا بقراره، بل يصدر في هذا وذاك عن مشورة أهل العلم، "فيحصل من انفراده الفائدة العظمى في قطع الاختلاف، ويتحقق باستضاءته استثمار عقول العقلاء"؛ إذ لو عمل الإمام برأيه فحسب، دون الاستنارة بآراء أهل العلم لأدى الأمر إلى تشتت الآراء، وتفرق أمر الأمة، وتنازع الأهواء والشهوات.

                وفي السياق نفسه، يقرر الجويني أيضا أن الإمام إذا صادفته مسألة من المسائل المالية العويصة التي غمض حكمها عليه، فإنه يتعين عليه أن يعمل فـكره، ويرجع إلى أهل العلم؛ فإذا حصل له من مجمـوع ذلك حكم، فعليه أن يعمل به، ولا ينبغي أن يستهين بهذا المسلك، وقد قال تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (النحل:43). والعبارة التي أحيل عليها في هذا الصدد، قوله: "فهذه الأموال التي تحويها يد الإمام، ومصارفها مقررة عند الفقهـاء، وقد كثر فيها الاختلاف، ومسالك الظنون، والإمـام يرى فيه رأيه، وإن اعتاصت مسألة أجال فيها فكره، وردد نظره، واستضاء برأي العلماء، فإذا غلب ظنه مضى قدما، وأمضى مقتضى رأيه" [1] .

                [ ص: 115 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية