الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                معلومات الكتاب

                فقه السياسة الشرعية (الجويني أنموذجا)

                الدكتور / عمر أنور الزبداني

                المبحث السادس

                عقد الإمامة لإمامين

                الأصل في عقد الإمامة أن لا يعقد إلا لواحد؛ إذ لو تعدد المعقود لهم، لجر ذلك إلى فساد. أما التعليل الذي يقيم الجويني على أساسه هذا الأصل، فهو أن الغرض من الإمامة جمع الآراء المشتتة، وتقريب الأنظار المتفاوتة، وهذا المقصد لا يتحقق في حال تعدد الأئمة؛ إذ إن التعدد ينتج عنه تشتت في الآراء، وانتظام الإسلام وقوام أمره لا يكون إلا بالإذعان لذي رأي ثابت.

                ويفترض الجويني ثلاثة فروض لنصب إمامين، ويبين حكم المسألة في كل فرض من هذه الفروض على النحو التالي:

                الفرض الأول: أنه لو نصب إمامان، على أن ينفذ أمر كل واحد منهما في جميع دولة الإسلام، لم يجز ذلك؛ لما يجر من تدافع وتنازع؛ ولأن ضرر نصبهما يربو على عدم نصب أي منهما.

                الفرض الثاني: أن ينصب إمام في بعض ديار الإسلام، وينصب إمام آخر في بعضها الآخر، مع التمكن من نصب إمام واحد لجميعها، فهذا أيضا لا يجوز؛ للمعنى المتقدم، وهو أن الإمامة منوطة برأي واحد تجتمع عليه الآراء ولا تتفرق، والحالة المفترضة لا تحقق ذلك، بل تؤدي إلى خلافه [1] . [ ص: 75 ]

                الفرض الثالث: أن لا يتمكن الإمام من بسط سلطته على ديار الإسلام؛ لاتساعها أو لغير هذا من الأسباب. والجويني ينظر إلى هذا الفرض من زاويتين:

                الأولى: أن يكون قد سبق عقد الإمامة لصالح لها، ثم طرأ طارئ حال دون عموم نظره، فالوجه أن ينصب أصحاب الجهة التي لا يصل إليها نظر الإمام أميرا يسير شؤونهم من غير أن يكون هذا الأمير إماما، بل يتعـين عليه، إذا زالت الموانع التي كانت تحول دون وصول نظر الإمام إلى تلك الجهة، أن يخضع ويذعن لرأي الإمام، وللإمام إقراره أو عزله، بحسب ما يراه من مصلحة [2] .

                الثانية: أن لا يتقدم تلك الحالة نصب إمام، وتعذر نصب إمام واحد يسير أمور الدولة، واقتضى الأمر نصب أكثر من إمام، أنه ينصب إمام في كل بقعة من ديار الإسلام، دون أن يكون أي واحد منهما إماما للمسلمين. لكن إذا تمكن أهل الحل والعقـد من نصب إمام، كان على من عين أميرا أن يذعن لأمـره، وللإمـام المختـار أن يحـكم عـلى كل أمـير معين بما يراه الأصلح.

                ويذكر الجويني في "إرشاده" ما يفيد جواز نصب إمامين حال الضرورة؛ وذلك "إذا بعد المدى، وتخلل بين الإمامين شسوع النوى". [ ص: 76 ]

                ومن فروع هذه المسألة، أنه لو اتفق نصب إمامين في قطرين من أقطار الإسلام، وكانا صالحين للإمامة، ومستجمعين لشروط عقدها، وعقد لكل واحد عقدا عاما، من غير أن يعلم القطر الآخر بهذا العقد، فالرأي عند الجويني أن الإمامـة لا تنعقـد لأي منهـما؛ لأن منصب الإمامة لا ينعقد إلا على جهة الاستقلال، ويستحيل فرض إمامين نافذي الحكم عموما في وقت واحد. فإذا وقع عقد الإمامة -وفق ما تقدم- كان المتعين على أهل الحل والعقد تقديم المعقود له أولا. وإن لم تعلم أولية أحدهما، فقد تعين على أهل الحل والعقد اختيار صالح للإمامة، والعقد له من جديد.

                وقد عول الجويني على دليل الإجماع في تقرير حكم أصل هذه المسألة [3] . إضافة إلى اعتبار النظر المصلحي في بعض ما تفرع عنها من مسائل؛ من ذلك المسألة التي افترضها من أن الإمامة إذا عقدت لصالح لها، ثم ظهر مانع يمنع الإمام من النظر في جزء مما هو داخل تحت سلطانه، فالحكم في مثل هذا الفرض، أنه يتعين على أهـل ذلك الجزء أن ينصبوا أميرا عليهم، ليقيم فيهـم شرع الله. والنظر المصلحي في هذه المسألة يبدو في جانبين:

                الأول: أنه ليس من الصواب ترك الناس سدى مهملين من غير راع يقوم بأمرهم. [ ص: 77 ]

                الثاني: إذا زال المانع من النظر في ذلك الجزء، وأمكن الإمام النظر في أمره، كان الأمر له دون سواه. وهذا موافق لما تقرر من أن الغرض من الإمامة لا يتحقق كاملا، إلا بانفراد الإمام.

                ومن صور النظر المصلحي أنه إذا لم يتيسر نصب إمام واحـد يقوم بأمر دولة الإسلام، وانشـطرت دولة الإسـلام إلى شطرين، فإنه يجوز نصب أميرين لكل شطر من شطري الدولة [4] . فالمصلحـة هي المعتبرة في هذه الصور وأمثالها، فحيثما أمكن العقد للإمام فهو المتعـين؛ لأن أمر الدولة لا يستقيم إلا بإمام واحد؛ وإن لم يمكن العقد لواحد، فالمتعين إقامة من يسد مسده، فمصلحة الأمة هي المعتبرة، وعلى وفقها يدور الحكم وجودا وعدما. [ ص: 78 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية