الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                معلومات الكتاب

                فقه السياسة الشرعية (الجويني أنموذجا)

                الدكتور / عمر أنور الزبداني

                المدخل الأول

                تعريف مصطلح البحث

                من المقرر عند أهل العلم أنه لا سبيل إلى استيعاب وتحليل وتعليل أي بحث دون فهم مصطلحاته؛ ومن هنا كان من الأهمية بمكان تحديد مصطلح هذا البحث تحديدا يوضح مقصوده، ويكشف مكنونه. ولما كان المصطلح المركزي في هذا البحث هو مصطلح (السياسة الشرعية)، كان من مقتضى البحث التعريف بهذا المصطلح، وبيان محدداته ومكوناته. لكن قبل التعريف بهذا المصطلح، يكون من المفيد تقديم توطئة تاريخية موجزة حول نشأة هذا المصطلح وتطوره.

                لم أقف على مصطلح (السياسة الشرعية) في كلام الفقهاء المتقدمين، والمصطلح المستعمل عندهم، والمرادف لمصطلح (السياسة الشرعية)، هو مصطلح (السياسة). ويلاحظ أن كتب الفقهاء المتقدمين قد اشتملت على الأحكام (الفقهية) والأحكام (السياسية) دون تمييز بينها، وأن التمييز بين هذين النوعين من الأحكام لم يظهر إلا مع الفقهاء المتأخرين، وتحديدا مع ابن قيم الجوزية. والحنفية هم أكثر من استعمل مصطلح (السياسة) ، حتى إن [ ص: 19 ] الإمام محمدا (189) صاحب أبي حنيفة سمى كتاب عمر، رضي الله عنه، إلى أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، كتاب (السياسة) [1] .

                والشافعية يعبرون عن مصطلح (السياسة الشرعية) بمصطلح (المصلحة)، ويجعلونها مرادفة لها، ويخصون ذلك فيما ترك الشارع تقديره للإمام، أو من في حكمه. ويعبرون عن ذلك بقولهم: "وإنما فعل للمصلحة" [2] . وهذا حكم بمقتضى السياسة الشرعية، وإن لم يعبروا عن ذلك بهذا المصطلح، لكن فهم ذلك من تعليلهم. والإمام الماوردي استعمل مصطلح (السياسة)، من ذلك قوله: واحتاج علي، رضي الله عنه، حين تأخرت إمامته، واختـلط الناس فيها وتجوروا إلى فضـل صرامـة في السياسة. وعلل بعض الأحكام على أنها من باب السياسة، كقوله: وتقتضيه السياسة [3] . [ ص: 20 ]

                كما أن الجويني استعمل مصطلحين قريبين من مصطلح السياسة الشرعية: أحدهما: مصطلح (الإيالة الشرعية). ثانيهما: مصطلح "السياسة الدينية" [4] ، بيد أنه لم يحدد المراد من هذين المصطلحين.

                ويبدو من كلام الفقهاء المتقدمين، أنهم يستعملون هذا المصطلح مرادفا لمصطلح (التعزير). قال ابن عابدين: "والظاهر أن السياسة والتعزير مترادفان؛ ولذا عطفوا أحدهما على الآخر؛ لبيان التفسير" [5] . ويؤيد هذا الاستعمال، أن هذا المصطلح غالبا ما يذكره الفقهـاء في بابي الحـدود والتعزير. والحنفيـة -خاصة - يستعملون هذا المصطلح بكثرة. بيد أن استعمال مصطلح (السياسة الشرعية) في كلام الفقهاء المتأخرين والمعاصرين، لم يقف عند بابي الحدود والتعزير، وإنما تعداه إلى ما هو أوسع من ذلك وأرحب، ليشمل النظم المالية، والقضاء، والتنفيذ، والإدارة، ونظام الحكم [6] . [ ص: 21 ]

                والظاهر أن أول من استعمل مصطلح (السياسة الشرعية) من الفقهاء المتقدمين ابن عقيل (513)، حيث نقل عنه ابن القيم، قوله: "جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية، أنه هو الحزم" [7] .

                وقد ذكر ابن تيمية هذا المصطلح في كتابه "مجموع الفتاوى" في أكثر من موضع. فقال في معرض الرد على بعض الفقهاء الذين يصفون ما فعله صلى الله عليه وسلم من العقوبات أنه من باب السياسة: "يقال لهم: هذه السياسة إن قلتم: هي مشروعة لنا، فهي حق، وهي سياسة شرعية" [8] . وفي معرض ذم من يعين اليهود والنصارى على إظهار شعائرهم في ديار المسلمين، قال: "ولا يشير على ولي أمر المسلمين بما فيه إظهار شعائرهم في بلاد الإسلام، أو تقوية أمرهم بوجه من الوجوه إلا رجل منافق ... أو رجل جاهل في غاية الجهـل، لا يعرف السياسة الشرعية الإلهية التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه" [9] .

                وكان ابن قيم الجوزية أصرح من استعمل مصطلح (السياسة الشرعية)، حتى إنه سمى كتابا بهذا المصطلح، جعله تحت عنوان: "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية". وأفرد فصلا في كتابه "إعلام الموقعين"، عنون له بقوله: [ ص: 22 ] "العمل بالسياسة"، وفصلا آخر تحت عنوان "كلام أحمد في السياسة الشرعية". وفي كتابه "بدائع الفوائد" قال: "فائدة: جواز العمل في السلطنة الشرعية بالسياسة".

                كذلك أتى ابن نجيم على هذا المصطلح في أثناء بيانه أن السياسة نوعان: عادلة وظالمة، فقال: "وقد صنف الناس في السياسة الشرعية كتبا متعددة" [10] . بيد أنه لم يذكر أيا من هذه الكتب المؤلفة في هذا الموضوع. ولعله يقصد بذلك أن الفقهاء صنفوا في موضوعات السياسة الشرعية، وإن لم يفردوها بهذا العنوان. وقد أصبح استعمال هذا المصطلح بعد شائعا بين الفقهاء، بل إن بعضهم أفرد هذا العنوان في كتاب مستقل [11] .

                هذا، والفقهاء يعبرون عن مصطلح (السياسة الشرعية) بمصطلحات أخر، مثل (الأحكام السلطانية)، و (تدبير أهل الإسلام)، و (السياسة الملوكية)، و (الإيالة)، و (الزعامة)، ونحو ذلك من المسميات التي يقصدون بها: الأحكام المتعلقة بالإمامة، والسلطات المقررة لها [12] .

                بعد هـذه التوطئة التاريخية، أعود للتعريف بمصطلح (السياسة الشرعية) ، فأقول: [ ص: 23 ]

                - تعريف (السياسة) لغة:

                مادة (سوس) تدل لغة على معنيين: أحدهما: فساد في شيء. والآخر: جبلة وخليقة. ولفظ (السياسة) مأخوذ من المعنى الثاني. ويستعمل لفظ (السياسة) في اللغة مصدرا لساس يسوس، يقال: ساس الأمر سياسة بمعنى: قام به، وهو سائس، من قولهم: ساسه. وسوسه القوم: جعلوه يسوسهم. ويطلق هذا اللفظ بإطلاقات كثيرة، يدور معناها حول القيام على الشيء، وتدبيره والتصرف فيه بما يصلحه [13] .

                - تعريف (الشرعية) لغة:

                (الشرعية) نسبة إلى الشرع، والأصل اللغوي لهذا اللفظ مادة (شرع)، وهو يدل على شيء يفتح في امتداد يكون فيه. من ذلك الشريعة، وهي مورد الشاربة الماء. واشتق من ذلك الشرعة في الدين، والشريعة. والشرعة والشريعة: ما سن الله من الدين، وأمر به [14] .

                - تعريف السياسة الشرعية اصطلاحا:

                الذي يقصده الفقهاء من لفظ (سياسة) عموما، هو بناء الحـكم على ما تقتضيه مصلحة الأمة، مما لم يرد بشأنه دليل خاص. وقد يستعملون لفظ (السياسة) أيضا، ويريدون به الأحكام التي من شأنها ألا تبقى على وجه [ ص: 24 ] واحد، بل تختلف باختلاف العصور، وتتغير بتغير الأحوال [15] . وقد تعددت تعريفات الفقهاء لمصطلح (السياسة الشرعية) وتنوعت، وأكتفي في هذا الصدد بذكر تعريف للمتقدمين وآخر للمعاصرين:

                فمن تعريفات المتقدمين تعريف ابن عقيل (513)، فقد عرفها بقوله: "السياسة ما كان من الأفعال، بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نزل به وحي" [16] . وهذا التعريف من أقدم وأشهر وأوفى ما عرف به هذا المصطلح. وهو يفيد أن السياسة الشرعية غير مقتصرة على ما نطق به الشرع فحسب، بل تشمل أيضا ما لم يرد فيه نص.

                ومن تعريفات المعاصرين تعريف الشيخ عبد الوهاب خلاف فقد عرفها بأنها: "تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية، بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار، مما لا يتعدى حدود الشريعة، وأصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين" [17] . وهذا التعريف من أجود التعريفات المحددة لمصطلح (السياسة الشرعية). [ ص: 25 ]

                - تعريف الباحث:

                والظاهر أن مصطلح (السياسة الشرعية) يطلق إطلاقين: عام وخاص.

                أما الإطلاق العام: فيطلق على ما يقابل (السياسة الوضعية = اللاشرعية)، ويكون المراد بها مطلق التشريعات الإسلامية، أي: السياسة التي تأخذ بالإسلام دينا ومنهج حياة، ويقابلها هنا السياسة غير الشرعية.

                أما الإطلاق الخاص - وهو المراد في هذا البحث -: فيطلق على جملة التدابير والتنظيمات القائمة على الاجتهـاد من لدن ولي أمر المسلمين، أو من ينوب عنه، من أجل مواجهة الواقع المتغير. ثم إنني أذهب في تعريف السياسة الشرعية إلى أنها: رعاية شؤون الأمة عامة بما لا يخالف أصول الشرع ومقاصده الكلية.

                وبحسب هذا التعريف، فإن السياسة الشرعية لا تقتصر على ما نطق به الشرع، بل تشمل أيضا ما لم يرد فيه نص، بشرط أن لا تخالف دليلا معتبرا، أو أصلا شرعيا، أو مقصدا كليا. كما أن هذا التعريف يشمل ما يشرعه ولي أمر المسلمين، أو من ينوب عنه. وهو شامل كذلك لجميع الأحكام التي يفرزها الواقع، وغير مقتصر على جانب التعزير. [ ص: 26 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية