المدخل الثاني
ترجمة الإمام الجويني
لما كانت هذه الدراسة تتخذ من فقه السياسة الشرعية عند الجويني منطلقا محوريا، كان من المسوغ، بل من المطلوب التعريف بهذه الشخصية تعريفا يضع بين يدي القارئ نبذة يسـيرة عن حياة هـذا الإمـام. من هنا جـاءت مشروعيـة هذا المدخل. وتستبين ترجمة هذا الإمام وفق العناوين التالية:
أولا: حياته وشخصيته:
تذكر كتب التراجم أن اسم الجويني: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف ابن عبد الله بن يوسـف بن محمـد بن حيوية الجويـني ثم النيسابوري، أبو المعالي. وتكاد تجمع المصادر التي ترجمت له على أن ولادته كانت في مدينة (جوين) [1] ، في المحرم سنة تسع عشرة وأربع مئة. ثم رحل إلى بغداد فأقام بـها مدة، ثـم قصد مكة إثر فتنـة وقعت له في بغـداد، فالمدينة [ ص: 27 ] وأقام في كل منهما فترة من الزمن، يدرس فيهما ويفتي الناس، ثم عاد إلى نيسابور، فبنى له الوزير (نظام الملك) المدرسة النظامية فيها. وكان يحضر دروسه أكابر العلماء.
ثانيا: مكانته العلمية:
نشأ الجويني في بيئة علمية، حيث كان أبوه إمام عصره في نيسابور، وكان جده ذا مكانة مرموقة في جوين. وكان عمه صوفي محدث. وقد وصفه علمـاء عصره بصفات تبين منـزلته العلميـة. فالمجاشـعي يقـول عنه: "ما رأيت عاشقا للعلم مثل هذا الإمام، فإنه يطلب العلم للعلم" [2] . أما السبكي فيقول في حقه: "ولا يشك ذو خبرة، أنه كان أعلم أهل الأرض بالكلام والأصول والفقه، وأكثرهم تحقيقا، بل الكل من بحره يغترفون". ويقول أيضا مبينا مكانته في الدفـاع عن أهل السنة: إن له "من الحقوق في الإسلام، والمناضلة في علم الكلام عن الدين الحنيفي، ما لا يخفى على ذي تحصيل" [3] .
تتلمذ على الجويني عدد كبير من العلماء أشهرهم: الغزالي، والكيا الهراسي، والخوافي. قال ابن كثير: "وكان يقعد بين يديه كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل، وتفقه به جماعة من الأئمة" [ ص: 28 ] [4] .
ثالثا: مؤلفاته العلمية:
ترك الجويني وراءه نتاجا علميا غزيرا، في علوم شتى، سواء في علم أصول الدين، أم علم أصول الفقه، أم علم الفقه، أم علم الخلاف. ومن أهم المؤلفات التي ألفها الجويني المؤلفات التالية:
كتاب "نهاية المطلب في دراية المذهب"، قال عنه السبكي: "لم يصنف في المذهب مثلها". ولهذا الكتاب مختصر، اختصره الجويني نفسه، ووصفه السبكي بأنه: "عزيز الوقوع، من محاسن كتبه، قال هو نفسه فيه: "إنه يقع في الحجم من "النهاية" أقل من النصف"، وفي المعنى أكثر من الضعف" [5] . وكتاب "غنية المسترشدين"، و"الدرة المضية" في علم الخلاف. وكتاب "العقيدة النظامية"، و"الإرشاد"، في أصول الدين. وكتاب "البرهان" في أصول الفقه، وصفه السبكي بأنه "لغز الأمة" [6] .
رابعا: تعريف بكتابه الغياثي:
بما أن كتاب "الغياثي" هو محور هذا البحث، كان لا بد من التعريف باسم الكتاب وموضوعه.
الاسم الكامل لهذا الكتاب هو: "غياث الأمم في التياث الظلم"، واشتهر باسم "الغياثي" [7] . ونسبة هذا الكتاب للجويني لا شك فيها، وكل [ ص: 29 ] من ترجم للجوينـي، يذكره من ضمـن مصنفـاته. و (الغياث): من الغوث والإغاثة، وهي الإعانة والنصرة عند الشدة. و (الالتياث) هو: الاختلاط والالتفاف، يقال: التاث النبات: إذا التف بعضه على بعض. و (الظلم) بفتح اللام، على وزن كرب، جمع ظلمة: وهو خلاف الضياء والنور، وهنا مستعمل على التشبيه. فيكون معنى العنوان: هذا ما تعان به الأمم عندما تحوط بـها المحـن، وأخـطر تلك المحن أن لا يكون للأمـة إمام تأتم به. وهذا الكتاب من أواخر ما كتب الجويني، فهو يمثل عصارة فكره السياسي والفقهي [8] .
أما عن موضوع الكتاب، فكما يقول مؤلفه: جمع أحكام الإمامة؛ لتكون هاديا ومرشدا لـ (نظام الملك) الذي كان يتولى زمام الأمور حينئذ. بيد أن الجويني لم يقتصر على أحكام الإمامة، بل صرح في أكثر من مناسبة أن أحكام الإمامة ليست هي المقصود والمعمود من الكتاب [9] . وقد عالج الجويني موضوعات كتابه من خلال ثلاثة أركان: أحدها: القول في الإمامة وما يليق بها من الأبواب. والركن الثاني: في تقدير خلو الزمان عن الأئمة. والركن الثالث: في تقدير انقراض حملة الشريعة. [ ص: 30 ]
ويعد كتاب "الغياثي" من أوائل الكتب التي بحثت فقه السياسة الشرعية بجوانبها السياسية، والعلمية، والاجتماعية، والمالية، والدعوية. وهو كتاب فريد في بابه، حيث إن مؤلفه لم يؤصل لمسائل السياسة الشرعية الواقعة فحسب، بل تجاوز ذلك أيضا ليؤصل لمسائل السياسة الشرعية المتوقعة، أي فقه المستقبليات.
خامسا: وفاته:
تجمع كتب التراجـم على أن وفاة الجويني كانت في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربع مئة للهجرة (478هـ)، ودفن في نيسابور. [ ص: 31 ]