المدخل الرابع
فقه السياسة الشرعية عند الجويني
ضمن سياقه التاريخي
تؤكد الدراسات التي ترجمت للجويني على أن الجويني لم يكن بعيدا عن أحداث واقعه، ولا منعزلا عنه، بل عاش واقعه، وكان ذا حضور فاعل، وتأثير علمي، لا يختلف فيهما اثنان، فعاش فيما عاش فيه الآخرون، وتعرض لما تعرض له معاصروه من محن وفتن، كان العصر يفور فيها ويمور [1] .
وتأسيسا على ما تمهد، سوف أخصـص هذا المدخل لإلقاء الضوء على السياق التاريخي الذي كتب فيه الجويني فقه السياسة الشرعية من النواحي الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وذلك من خلال النقاط الثلاث التالية:
أولا: ملامح عصر الجويني (ثقافيا، سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا).
ثانيا: فقه السياسة الشرعية عند الجويني والواقع.
ثالثا: آفاق السياسة الشرعية عند الجويني. [ ص: 35 ]
أولا: ملامح عصر الجويني:
ثمة شبه إجماع بين المصادر التي ترجمت للجويني، أنه ولد سنة (419هـ) في مدينة (جوين) ، وفارق الحياة سنة (478هـ)، فيكون مجموع ما عاش تسعا وخمسين سنة، قضى معظمها في مدينة نيسابور، وهي من أكبر مدن خراسان في ذلك العصر، وتخلل تلك الحياة إقامة في الحرمين الشريفين مدة أربعة أعوام، إبان هجرته من نيسابور على إثر فتنة حدثت في نيسابور، كما سيتبين.
وقد ألمحت إلى أن الجويني كان متأثرا بما يجري حوله من أقطار الإسلام، كبغداد ودمشق وغيرهما من مدن الإسلام. هذا، وسوف أقدم فكرة سريعة عن ملامح عصر الجويني من خلال تسليط الضوء على عصره ثقافيا، وسياسيا، واجتماعيا، واقتصاديا، مع الإشارة إلى أن هذه المجالات ليست منفصلة عن بعضها، بل هي متداخلة فيما بينها.
1- الوضع الثقافي:
القارئ لتاريخ الإسلام في القرن الخامس الهجـري يجد أن تلك الفترة - على الرغم مما تخللها من فتن ومحن وانقسامات - كانت من الناحية العلمية، وخاصة علوم الشريعة، عامرة بالعلم والعلماء، يؤيد ما قررته تلك الأسماء التي أضاءت سماء العلم في تلك الفترة، ولست هنا بسبيل لسردها، بل أكتفي بالإحالة إلى مظانها من كتب التراجم والتاريخ وغيرها [ ص: 36 ] [2] .
لقد كان القرن الخامس الهجري - قرن الجويني - بحق من أخصب فترات الحصاد العلمية في التاريخ الإسلامي، حيث كانت "الحياة العلمية تمور وتفور، تصطرع فيها تيارات، ومذاهب واتجاهات ... جعل الحياة الفكرية تعيش أزهى فترات نشاطها، وتوثبها، وقوتها، وحيوتها" [3] .
وقد وصف لنا المقريزي الحالة الثقافية للقرن الخامس الهجري، فقال: "فانتشرت مذاهب الرافضة في عامة بلاد المغرب ومصر والشام ... وكانت بينهم وبين أهل السنة من الفتن والحروب والمقاتل ما لا يمكن حصره ... واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرامية والقرامطة والباطنية حتى ملأت الأرض" [4] .
عموما، فإن السمة المميزة لذلك العصر من الناحية الثقافية، "أنه عصر نصرة المذاهب، وإن شئت قل: عصر صراع المذاهب" [5] ، سواء على المستوى العقدي، أم على المستوى الفقهي. وهنا ثلاثة أحداث ثقافية مهمة، لا ينبغي أن يغفل عنها في هذا السياق:
أولها: الصراع العقدي الذي كان يجري بين أهل السنة والشيعة في أقطار الإسلام عموما وبغداد على وجه التحـديد، بحيث لا يكاد يمر عام إلا وتثار فتن بين الشيعة والسنة، والقارئ لتاريخ تلك المرحلة لا يعجزه أن [ ص: 37 ] يقف على كثير من أمثال هذه العبارة: "وفيها كانت فتنة كبيرة بين أهل السنة والشيعة" [6] ، وكان لهذا الصراع أثره على جانب الإنتاج العلمي.
ثانيها: أسهمت المدارس النظامية التي أنشاها (نظام الملك) في العديد من حواضر الإسلام في إعادة مكانة أهل السنة في حياة الأمة من جهة، وتقليص نفوذ الفكر الباطني من جهة ثانية؛ حيث قامت تلك النظاميات بنشر الوعي والثقافة الإسلامية الصحيحة، لتحصين الأمة من الدعوات والهجمات الباطنية. وقد كانت نظامية نيسابور - موطن الجويني - تتمتع بمكانة خاصة مع نظامية بغداد، حيث تولى الجويني نظامية نيسابور، وتولى الشيرازي نظامية بغداد [7] .
ثالثها: بدت في هذا القرن نذر التقليد والجمود، حتى كاد ينغلق فيه باب الاجتهاد؛ وقد ألمح الجويني إلى هذا الأمر في أثناء بحثه مسائل خلو الزمان عن المجتهدين، فبعد أن صور مسألة من تلك المسائل، قال: "وتكاد هذه الصورة توافق هذا الزمان وأهله"، وقال شـاكيا مما آل إليه الأمر: "وإنما بلائي ... من ناشئة في الزمان، شدوا طرفا من مقالات الأولين، وركنوا إلى التقليد المحض" [8] . [ ص: 38 ]
2- الوضع السياسي:
كان العالم الإسلامي في القرن الخامس الهجري يعيش حالة من الفوضى والانقسام من الناحية السياسية، وخاصة في قسمه الشرقي؛ فقد كانت بغداد مركز الخلافة العباسية، وقامت الدولة البويهية - وهي دولة تتبنى المذهب الشيعي - في بلاد فارس؛ وقامت الدولة الفاطمية في مصر، وقامت دول ملوك الطوائف في الأندلس [9] . وكان القرن في مجمله مليئا بالحوادث، وكانت بغداد مركزها، حيث انتشرت الدعوة الباطنية في أنحاء العالم الإسلامي، وتغلغلت في جسم المجتمع الإسلامي، وشكلت خطرا عظيما على الإسلام، وكان التشيع "ثوبا يتستر وراءه كل من يريد أن يبذر الفتن ضد الإسلام، ومأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام". وكان الهدف الرئيس للحركات الباطنية إسقاط الخلافة الإسلامية، وبحسب تعبير الغزالي: كانت تريد "إبطال الشرائع" [10] .
ويصف لنا نظام الملك (485هـ) الحالة التي آل إليها وضع الدولة العباسية، حيث يقول: "وفي الدولة اليوم، ممن يتسنمون المقامات الرفيعة، ولهم فيها دالة، من يطلون برؤوسهم من أقبية الشيعة، وليسوا منهم، بل هم [ ص: 39 ] في حقيقة أمرهم من هؤلاء القـوم (الإسماعيلية)، يدبرون شؤونهم سرا ... إنما يعملون على الإطاحة بالخلافة العباسية". ويقول أيضا: "وليس ثمة فرقة أكثر شؤما وتخريبا وسوءا من هؤلاء القوم؛ لأنهم يبيتون الشر لهذه المملكة من وراء حجاب، ويسعون إلى إفساد الدين. كلهم آذان صاغية تنتظر نداء القيام ضد الدولة، وأعين ساهرة تترقب إشارة الخروج عليها" [11] .
ويصف لنا ابن الأثير (630هـ) شيئا من هذا القبيل، فيقول في أثناء تأريخه لأحداث سنة (334): "وازداد أمر الخلافة إدبارا، ولم يبق لهم من الأمر شيء البتة، وقد كانوا يراجعون ويؤخذ أمرهم فيما يفعل، والحرمة قائمة بعض الشيء. فلما كان أيام معز الدولة زال ذلك جميعه، بحيث إن الخليفة لم يبق له وزير، إنما كان له كاتب يدبر إقطاعه وإخراجاته لا غير، وصارت الوزارة لمعز الدولة، يستوزر لنفسه من يريد" [12] . وهنا لا بد من تسجيل حدثين مهمين في هذا السياق:
أولهما: أن النصف الأول من القرن الخامس الهجري استولى فيه الباطنيون على العديد من أقطار الإسلام، حيث كانت كثير من الدول الإسلامية واقعة تحت حكم البويهيين، ويوصف عصر البويهيين، بأنه كان [ ص: 40 ] عصر اضطهاد لأهل السنة، حتى إنه في سنة (436هـ)، ونتيجة التسلط البويهي، قامت الإسماعيلية بالدعوة للحاكم الفاطمي المستنصر بالله في نيسابور، فـ"كان لمغالاة بني بويه في التشيع نتائج سيئة الأثر" [13] .
ثم شهد منتصف القرن الخامس الهجري انقلابا سياسيا وفكريا، صاحبه زوال حكم بني بويه، وبداية حكم السلاجقة، الذي استمر إلى سقوط الخلافة العباسية في بغداد سنة (656هـ). وقد كان لقيام دولة السلاجقة أثر كبير في تاريخ المشرق الإسلامي؛ ذلك أن تلك الدولة أسهمت في توجيه الأحداث السياسية بشكل بارز [14] .
ثانيهما: كانت الفرق الباطنية عدوا داخليا للإسلام، وقد أخذت على عاتقها توجيه الطعنات المخيفة له من الخلف. وقد شهدت تلك الفترة موجة من الاغتيالات لعدد من قيادات الفكر والسياسة، الذين قتلوا على يد الباطنية. وكان من أهم القيادات السياسية التي اغتيلت على أيديهم الوزير السلجوقي (نظام الملك/السياسي الكبير)، الذي كان الموجه للدولة السلجوقية في عهد السلطانين: ألب أرسلان، وملكشاه. والذي كان يعتبر بحق سيفا، سلطه الله على الفرق الحاقدة [15] . [ ص: 41 ]
3- الوضع الاجتماعي:
كان للفوضى الاجتماعية التي أوجدتها الفرق الباطنية في المجتمع الإسلامي خطر عظيم، أدى إلى ارتباك فكري وبلبلة أمنية، تمثلت في انتشار الفوضى، والنهب والسلب، واضطراب الأمن. وقد استغلت الحركات الباطنية حالة الفقر التي آل إليها الأمر "فعملت على إشباع الشهوات الجنسية والمالية ... مما سهل الأمر على الحركات الباطنية أن تستغلهم أبشع استغلال". كما أنها أحدثت "انهيارا اجتماعيا لا مثيل له، تدل خطورته على الوضع الذي وصل إليه الناس في ذلك الوقت، حيث صار هؤلاء مصدرا للخوف والقلق بين جميع طبقات الناس، فصار الأخ لا يثق بأخيه، والأب يخاف من ابنه، والأمير لا يعلم المخلص من أتباعه وحراسه، لخوفهم أن يكون واحدا منهم ممن سلب الباطنية عقولهم بأفكارها المريبة البراقة" [16] .
ولعل النص التالي للإمام القشيري - وهو معاصر للجويني - يصـور ما آل إليه الأمر، يقول: "وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام ... واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات، وركنوا إلى اتباع الشهـوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظـورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة، والنسـوان، وأصحـاب السـلطان. ثم لم يرضوا [ ص: 42 ] بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال. وادعوا أنهم تحرروا من رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال" [17] .
وعلى الجملة، فقدت الحياة الاجتماعية في تلك الفترة اتزانها وطبيعتها، وأصيبت بنوبة من الانحطاط والتخبط، بحيث "كانت الكثرة من المسلمين فريسة العلل الخلقية والاجتماعية، وقد انتشر فيها التعطل والغفلة والجهالة والنفاق" [18] ، وأصبح أمر الناس مهددا بين خطر التيارات الباطنية، وخطر الفساد الاجتماعي والانحلال الخلقي.
4- الوضع الاقتصادي:
لم يكن الوضع الاقتصادي أسعد حالا من الوضع السياسي والاجتماعي، فقد انخفض مستوى المعيشة، واشتد الغلاء على الناس. ونستدعي في هذا السياق بعضا من نصوص التاريخ، تضيء شيئا عن الوضع الاقتصادي في الفترة موضوع الحديث:
يذكر ابن الأثير في أثناء تأريخه لأحداث سنة (401هـ)، أنه "اشتد الغلاء بخراسان جميعها، وعدم القوت حتى أكل الناس بعضهم بعضا، فكان الإنسان يصيح: الخبز الخبز! ويموت، ثم تبعه وباء عظيم حتى عجز الناس عن [ ص: 43 ] دفن الموتى" [19] . وذكر أنه في سنة (423هـ) "غلت الأسعار جدا ببغداد وغيرها ... وفيها وقع موتان عظيم ببلاد الهند وغزنة وخراسان وجرجان والري وأصبهان، وخرج منها في أدنى مدة أربعون ألف جنازة" [20] .
ومحصل القول هنا: إن الحياة الاقتصادية -في الفترة موضوع البحث -اتسمت باضطراب الأمن، وإهمال المصالح العامة، وغلاء الأسعار، وانتشار المجاعات، والإسراف والتبذير عند علية القوم، والجشع والنهب من قبل أصحاب المناصب ومن تبعهم [21] .
ثانيا: فقه السياسة الشرعية عند الجويني والواقع:
لعل من أوضح ما يستدل به لارتباط فقه السياسة الشرعية عند الجويني بواقعه السياسي، كتابه الذي أفرده لهذا الموضوع، الذي جعله تحت عنوان "غياث الأمم في التياث الظلم"، فهذا العنوان دال على أن الجويني كان يريد أن يعالج وضعا واقعا أو متوقعا. وقد أشار في مقدمة كتابه إلى الوضع القائم يومئذ، وأن "خطة الإسلام شاغرة، وأفواه الخطوب إليها فاغرة" [22] . وبالفعل، فإن أغلب أقطار الإسلام حينئذ كانت في حاجة ماسة إلى مغيث يغيثها من الظلمات التي بدأت تدخل فيها. [ ص: 44 ]
فكتاب "الغياثي" إذن على علاقة وثيقة بالوضع السياسي لأقطار الإسلام يومئذ؛ هدفه بيان قواعد الإمامة وفق منهج أهل السنة والجماعة، بعد أن باتت مؤسسة الخلافة مهددة بالزوال، ومن ثم مطالبة ولاة الأمر بحمـل الناس على مـذاهب السـلف، بعد أن أضحت عقـائدهم مشوبة بالأوهام. فلا عجب - والحال كذلك - أن يكون كتاب "الغياثي" صورة واضحة عن الفكر السيـاسي السني في ظل الظروف التي كان يعيشها الجويني [23] .
وبنية كتاب "الغياثي" الأساس تقوم على الرد على المخالفين لأهل السنة في موضوع الإمامة على وجه أخص، وقد كان أمر العقيدة مهددا جراء التغلغل الباطني في جسم المجتمع الإسلامي، بحيث لم يخل قطر من أقطار الإسلام عن داعين للدعوة الباطنية، الذين كانوا يتخذون من التشيع ستارا لهم، فرد الجويني ردا مفصلا على القائلين بالنص على الإمام، ورد عليهم أيضا القول بعصمة الأئمة [24] .
ومن جملة ما طالب به الجويني (نظام الملك) معالجة أمر المبتدعين في المجتمع، وحذره من الفتن التي بدأت تنخر في جسمه، وخاطبه بقـوله: "ومما أنهيه إلى صدر العالم ... فتنة هاجمة في الدين، ولو لم تتدارك؛ لتقاذفت إلى معظم المسلمين ... وحق على من أقامه الله تعالى ظهرا للإسلام أن [ ص: 45 ] يستوعب في رحض الملة عنها الليالي والأيام" [25] ، فهذا نص صريح يتوجه الجويني من خلاله لصاحب القرار؛ طالبا منه تدارك الأمر قبل أن يستفحل.
وقد مثل موضوع الإمامة الجزء الأكبر من كتاب "الغياثي"، وهذا أمر له دلالة؛ إذ كان وضع الخلافة مهددا من الداخل والخارج على حد سواء. فوضع الجويني كتابه هذا؛ ليبين أهمية منصب الخلافة، وكيفية إدارة الدولة، وفقا لمنهج الشريعة الإسلامية، وعلى المستويات كافة [26] .
ومن أهم المسائل التي يتبدى فيها وجه الصلة بين فقه السياسة الشرعية والواقع السياسي، مسألة (العدد) الذي يجب توافره في أهل العقد، حيث قرر الجويني أن العبرة ليست بالعدد، وإنما بـ (الشوكة)، فلو كان العاقد واحدا ذا مكانة اجتماعية وسياسية، كان ذلك كافيا ليعقد الإمامة لمن كان مستوفيا لشروطها. وهذا على صلة وثيقة بالوضع السياسي في عصر الجويني، حيث أصبح استيلاء السلاطين والأمراء والقواد العسكريين على مقاليد السلطة واقعا سياسيا لا يمكن تجاهله، وأصبح من يقوم بتعيين الخليفة، السلطان، أو الأمير أو القائد العسكري، الذي يملك من القوة ما يمكنه من نصب خليفة وخلعه [27] . [ ص: 46 ]
ومما هو من باب اعتبار الواقع، تصحيـح الجوينـي ولاية الاستيلاء، إذا توافرت في المستولي الصفات المطلوبة؛ "ذلك أن الافتقار إلى الإمام ظاهر، والصالح للإمـامة واحـد، وقد خلا الدهر عن أهل الحل والعقد، فلا وجه لتعطيل الزمان عن وال يذب عن بيضة الإسلام"، يقرر الجويني هذا الحكم في ظل وضع أصبح فيه الخليفة مجرد آلة يتحكم بها، وأصبحت مقدرات الأمور بيد السلاطين [28] .
والمسائل التي أتى عليها الجويني المتعلقة بموضوع (الشوكة)، تبين أثر الواقع السياسي في تأصيل فقه السياسة الشرعية عند الجويني، ومن ثم لم يكن مستغربا من الجويني أن يقرر بداية، أن "مقصود هذا الباب تفصيل القول فيمن يستبد بالاستيلاء والاستعلاء، من غير نصب ممن يصح نصبه"، وموضوع الاستيلاء بالقوة كان سيد الموقف في عصر الجويني [29] .
ومطالبة الجويني ولاة الأمور عموما، و (نظام الملك) خصوصا، بضرورة "الاهتمام بمجاري الأخبار في أقاصي الديار" [30] على صلة وثيقة بأحوال أقطار الإسلام في القرن الخامس الهجري، وقد تغلل دعاة الباطنية، وثارت الحركات والثورات في العديد من أقطار الإسلام، بقصد الانقضاض على الخلافة، والقضاء عليها. [ ص: 47 ]
ثم إن طبيعة الظروف السياسية المضطربة، والفوضى الأمنية التي كانت تعيشها دولة الإسلام في عصر الجويني وما قبله، كانت تسمح بتصور خلو الزمان عن إمام يتولى أمر الدولة. فوجدنا الجويني يقرر أن الزمان إذا خلا عن ذي كفاية ودراية قائم بمقاليد الأمور، فإن الأمور حينئذ تكون "موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ... وصار علماء البلاد ولاة العباد" [31] . فهذا الحكم ليس حكما نظريا مجردا، بل نابع من واقع سياسي ومعاناة اجتماعية.
وإذا كان ما تقدم من مسائل يتعلق بالشأن السياسي عموما، فإننا بالمقابل نجد الجويني يقرر أحكاما تتعلق بالوضع الاجتماعي؛ فمثلا، نجده يحث ولاة الأمر على متابعة شأن المسلمين، وتفقد أحوالهم، ويعتبر أن "الدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين في ضر"، ويقرر أنه لو مات مسلم في مكان من أرض الإسلام، فإن الحاكم مسؤول عنه. وهذا الحكم غير منقطع عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية آنئذ [32] .
ولا يغيب عن الجويني - عند حـديثه عن واجبات الإمام - التأكيد على رعاية الأمن الداخلي. وتأكيده على هـذا الواجب على صلـة قوية بواقع المجتمع إبان عصره، حيث اضطرب الأمن في العديد من أقطار [ ص: 48 ] الإسـلام؛ فمثلا، تتكرر في كتب المؤرخين عبارات مثل: عظم أمر العيارين، فأفسدوا، ونهبوا، وأنه انقطعت الطرق عن العراق؛ لخوف النهب، فغلت الأسعار [33] .
فإذا تأملنا قول الجويني: "وأما نفض أهل العرامة من خطة الإسلام، ففيه انتظام الأحكام ... فإذا اضطربت الطرق، وظهرت دواعي الفساد، ترتب عليه غلاء الأسعار ... فالأمن والعافية قاعدتا النعم كلها" [34] ، أقول: إذا تأملنا قول الجويني، وهو يقرر هذا الواجب على الإمـام، وتأملنا أيضا ما نقلته عن الأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة في عصره، أدركنا قوة العلاقة بين تأسيس فقه السياسة الشرعية عند الجويني وبين واقعه.
ولا ينبغي أن يفهم ما جاء في هذا المبحث من أمثلة تأخذ بعين الاعتبار الواقع بأبعاده المختلفة، أن الجويني كان يفصل الحكم الشرعي على مقاس الواقع، أو أن يقال: إنه كان يسعى لجعل الحكم الشرعي تبعا للواقع [35] ، أقول: لا ينبغي أن يفهم الأمر كذلك؛ لأن تأصيل الجويني لفقه السياسة [ ص: 49 ] الشرعية جاء على وفق ما يقتضيه الشرع نفسه، القاضي بأهمية الأخذ بعين الاعتبار الواقع الذي يتنـزل فيه الحكم الشرعي؛ يشهد لذلك:
أن ما قاله الجويني لـ"نظام الملك" من وعظ وتذكير وتخويف، ووجوب مراجعة العلماء، وتبيين لما عليه من واجبـات، أنه ليس بذاك الذي يتأثر بمراكز القرار، فيقول ما لا يعتقد، ويكتب ما يملى عليه. ولعل ما تصرح به العبارة التالية، يحسم القول في الأمر، يقول: "ومما ألقيه إلى المجلس السامي: وجوب مراجعة العلماء فيما يأتي ويذر ... وهم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقا، وذوو النجدة مأمورون بارتسام مراسمهم، واقتصاص أوامرهم، والانكفاف عن مزاجرهم" [36] . فهل بعد هذا البيان والإيضاح لقائل أن يقول: إن الجويني كان يمالئ السلطة السياسية في عصره، أو أنه كان يشرع وهو محكوم بضغط الواقع(!)
أقول: يكفي أن نستحـضر هذا الموقـف ليتبين لنا أن ما قرره الجوينـي من فقـه السيـاسة الشـرعية، لم يـكن من باب التشريـع للسلطان، ولم يكن كذلك من باب الخضوع للواقع، بل ما قرره جاء بحسب ما أرشده إليه الدليل، وأيدته الأصـول الكلية، مع الأخذ بعين الاعتبار مجريات الحال والمآل. [ ص: 50 ]
ثالثا: آفاق السياسة الشرعية عند الجويني:
تعرض الجويني في أثناء بحثه لمسائل السياسة الشرعية لبعض الفروض المستقبلية، التي كان مبعثها الواقع السياسي والاجتماعي الذي كانت تعيش فيه الأمة الإسلامية. وتلك الفروض هي:
الأول: خلو الزمان عن إمام يقوم بأمر المسلمين. وعبر عن هذا الفرض بقوله: "أقدر شغور الحين عن حماة الدين، وولاة المسلمين" [37] .
الثاني: خلو الزمان عن المجتهـدين. وعبر عن هذا الفرض بقوله: "وإنما ذكرت طرفا من صفات المفتين، وأحكامهم؛ ليتبين للناظر خلو الدهر عن المفتين عند خوضنا فيه" [38] .
الثالث: خلو الزمان عن نقلة المذاهب وتفاصيل الشريعة. وعبر عن هذا الفرض بقوله: "مضمون هذه المرتبة ذكر متعلق التكاليف إذا خلا الزمان عن المفتين، وعن نقلة لمذاهب الأئمة" [39] .
الرابع: خلو الزمان عن العلم بأصول الشريعة. وعبر عن هذا الفرض بقوله: "مضمون هذه المرتبة تقدير دروس أصول الشريعة" [40] . [ ص: 51 ]
والسؤال الذي يستدعي نفسه في هذا السياق هو: لماذا افترض الجويني هذه الفروض؟ والأظهر في الجواب أن يقال: إن الجويني افترض تلك الفروض بناء على واقع عصره ونظرته لمستقبل دولة الإسلام؛ إذ كان يرى أن اندراس الشريعة غير مستبعد، بل هو أمر وارد تماما، وأن تلك الفروض إن لم تكن واقعة في عصره، فهي متوقعة مستقبلا. وتلك الفروض لم تكن فروضا نظرية بحتة، بل كانت فروضا مؤسسة على واقع الأمة. يؤكد ذلك جملة أمور، أذكر منها:
1- تصريح الجويني نفسه بالغرض الذي من أجله وضع كتابه "الغياثي"، إذ يقول: "وضعت هذا الكتاب لأمر عظيم، فإني تخيلت انحلال الشريعة، وانقراض حملتها، ورغبة الناس عن طلبها، وإضراب الخلق عن الاهتمام بها، وعاينت في عهدي الأئمة ينقرضون ... فعلمت أن الأمر لو تمادى على هذا الوجه، لانقرض علماء الشريعة على قرب وكثب" [41] .
2- ذكر الجويني في مقدمة كتابه "الغياثي" أن القسم الثاني من كتابه سوف يتناول فيه الحكم عند تقدير خلو الزمان عن الأئمة الأعلام، والاحتكام إلى الجهال والفساق من الناس، والابتعاد عن منهج الشرع، وبعد أن ذكر ما سيبحثه في هذا القسم، قال: "فإلى متى أردد من التقديرات فنونا؟ وأجعل الكائن المستيقن مظنونا؟" [42] . [ ص: 52 ]
3- وصف الجويني واقع عصره، بقوله: "عم من الولاة جورها واشتطاطها، وزال تصون العلماء واحتياطها، وظهر ارتباكها في جراثيم الحطام واختباطها، وانسل عن لجام التقوى رؤوس الملة وأوساطها، وكثر انتماء القرى إلى الظلم واختلاطها" [43] .
4- قرر الجويني في سيـاق افتراضه خلو العصر عن المجتهـدين، أنه إذ وجد فقيه قياس، فألحق ما لا نص فيه بما هو منصوص عليه في المذهب، أن ذلك أولى من تعرية الوقائع عن التكاليف. وعقب على هذا بقوله: "وهذا فتح عظيم في الشرع، لائق بحاجات أهل الزمان" [44] .
5- أثار الجويني مسألة اندراس أصول الشريعة بأسلوب السؤال والجواب، فقال: "وإن زعم السائل أن من أصول شريعتنا ألا تنسى، وإن نسيت التفاصيل ... فليس الأمر كذلك" [45] .
فهذه الأدلة وغيرها تدل على أن تلك الفروض لم تكن فروضا نظرية بحتة، بل كانت فروضا نابعة ومستندة إلى واقع كانت تعيشه الأمة.
ثم نحن إذا تأملنا في أحداث القرن الخامس الهجري ووقائعه، وجدنا معاصري ذلك العصر يقدمون لنا صورا وشهادات غير بعيدة عن مضمون ما ذكره لنا الجويني من واقع الناس والشريعة. [ ص: 53 ]
فهذا (نظام الملك) - وهو من الشخصيات المركزية في ذلك العصر - يصف لنا الحال الذي آل إليه العراق، فيقول: " ... أما الرعية، فإنهم يظهرون مذهب الزنادقة والباطنية علانية في كل مكان بالمدن والأطراف، ويسفهون الله والرسول ويشتمونهما، وينفون الخالق على الملأ، وينكرون الصلاة والصوم والحج والزكاة". ويتحدث عن الباطنية، بأنهم "يبيتون الشر لهذه المملكة من وراء حجاب، ويسعون إلى إفسـاد الدين ... ولن يألوا جهدا في بث الشر والفساد والقتل والبدع"، وأنهم "يسعون إلى الإطاحة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم " [46] .
وهذا الإمام القشيري - وهو شاهد على ذلك العصر أيضا - يسجل لنا صورة عن واقع ذلك العصر، وما آلت إليه الأمور في المجتمع، فيقول: "مضى الشيوخ الذين كان بـهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع ... واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات ... " [47] .
أما الإمام الغزالي -وهو من شهود ذلك العصر كذلك -فيخبرنا أنه "إنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، فلولا القضاة السوء، والعلماء السوء، لقل فساد الملوك؛ خوفا من إنكارهم"؛ ويصف [ ص: 54 ] وضع المسلمين عموما بقوله: "لقد بلغت المدية العظم، وبلغ السيل الزبى، وكاد المسلمون يستأصلون" [48] .
فإذا قرنا هذه النقول مع الفروض التي افترضها الجويني، أمكن القول: إن تلك الفروض لم تكن بعيدة عن واقع عصره، الذي بدت فيه نذر التقليد والجمود، وكاد ينغلق فيه باب الاجتهاد؛ وكانت مجريات الأحداث تؤشر على أن الأمور تسير نحو الأسوأ، ويكفي هنا أن أستحضر بعض الوقائع السياسية، التي شهدتها دولة الإسلام بعد أفول قرن الجويني، كسقوط القدس على يد الصليبيين (492)، وسقوط بغداد على يد التتار (656)، وسقوط الأندلس بيد الإفرنج.
ومهما يكن الأمر، فالذي يبدو أن الذي دفع الجويني إلى افتراض هذه الفروض أمران:
أحدهما: النصوص الشرعية التي يفهم منها ذهاب أصول الشريعة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن بيـن يدي السـاعة أياما، يرفـع فيها العلم، وينزل فيها الجهـل، ويكثر فيها الهرج ) [49] ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا يقبض العلـم انتزاعا، ينتزعه من العباد، ولكن يقبض [ ص: 55 ] العلم بقبض العلماء ... ) [50] ؛ وغيرها.
ثانيهما: الواقع السياسي الذي كان يعيشه الجويني بآلامه وآماله، ومستقبل دولة الإسـلام الذي كان يتوقعـه بثاقب نظره، وبعد حدسه. وقد ذكرت من النصـوص التي تبين ذلك الواقع، وما هو متوقع ما يغني عن إعادتها.
ومع تقديري للفروض التي افترضها الجويني، إلا أنني أرى أن المستقبل لهذا الدين، وأن الله متم نوره ولو كره الكافرون والمشركون؛ وأذهب إلى أن النصوص الواردة بذهاب العلم والعلماء، وظهور الجهل والجهال، لا بد أن تفهم في إطار النصوص العامة للشريعة، التي تؤكد على أن العاقبة للمتقين، وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرا، والتي تعد المؤمنين بالاستخلاف في الأرض، إن هم حكموا شرع الله. [ ص: 56 ]