المبحث الثالث
صفات أهل الاختيار
يتناول الجويني في هذا المبحث مسألتين رئيستين تتعلقان بأهل الاختيار:
أولهما: في صفات أهل الاختيار.
ثانيهما: في العدد الذي يجب توافره فيهم. ويؤصل لكلا المسألتين بذكر ما هو مقطوع فيه أولا، ثم يثني بما هو مظنون.
أما ما هو مقطوع به في هذه المسألة - فيما يراه - فهو "أن النسـوة لا مدخل لهن في تخير الإمام وعقد الإمامة ... ولا تعلق له بالعـوام، الذين لا يعدون من العلماء ... ولا مدخل لأهل الذمة في نصب الأئمة"، فخروج هذه الأصناف من أهل الحل والعقد أمر مقطوع به. ولا يبين الجويني هنا على وجه التفصيل الدليل القاطع على خروج هذه الأصناف من دائرة الاختيار، بل يذكر على وجه الإجمال أن استبعاد هذه الأصناف من أهل الاختيار والعقد ليس بالأمر الخفي الذي يحتاج إلى بيان.
أما ما هو مظنون من مسائل هذا المبحث، فهو صفة الاجتهاد في أهل العقد والاختيار، فهذه الصفة - وفق الجويني - محل نظر واجتهاد. وينقل الجويني قولين لأهل العلم في هذه المسألة، ويختار أنه لا يشترط فيمن يتولى [ ص: 65 ] اختيار الإمام والعقد له، أن يبلغ مبلغ المجتهدين، بل يكفي أن يكون ذا عقل ومعرفة، ودراية بمن هو أهل للإمامة. ويدعم اختياره بقاعدة شرعية، مفادها "أنا نكتفي في كل مقام بما يليق به من العلم" [1] .
ومن الصفات المعتبرة فيمن يتولى العقد للإمام، ومما هو داخل في مجال الرأي والاجتهاد، أن يكون المختار "ممن تفيد مبايعته منة وشـوكة"، فمن لم تكن بيعته تفيد قوة فلا يصح عقد البيعة له.
ومن الصفات المعتبرة في أهل الاختيار صفة الـورع؛ وذلك أن "من لا يوثق به في باقة بقل، كيف يرى أهلا للحل والعقد؟ ... ومن لـم يتق الله لم تؤمن غوائله" [2] .
أما العدد المطلوب توافره في أهل الاختيار والعقد. فالمقطوع به في هذه المسألة، "أن الإجماع ليس شرطا في عقـد الإمامة بالإجماع" [3] ؛ بدليل أن أبا بكر، رضي الله عنه، صحت بيعته، من غير أن ينتظر في تنفيذ ما هو منوط به مبايعة من لم يكونوا في دار الهجرة. فجريان تلك البيعة هذا المجرى، دون اعتراض وممانعة دليل على إقرار البيعة على الشكل الذي تمت عليه، [ ص: 66 ] وهو شكل لم يتوافر فيه صفة الإجماع، فكان إجماعا على أن الإجماع ليس شرطا في حصول عقد الإمامة.
وأيضا، فإن المقصد الأساس من إقامة الإمامة حفظ الدين وإقامة الدنيا، فلو تأخر نصب إمام يقوم بذلك حتى يتحقق الإجماع لفات المقصود من نصب الأئمة، ولأدى الأمر إلى خلاف المقصـود من الإمـامة، ما يعني أنه لا يشترط حصول الإجماع لعقد الإمامة.
وما هو مظنون العدد الذي ينبغي تحققه لاختيار الإمام؟ ويختار الجويني في هذا الخصوص، أن الإمامة تنعقد بمبايعة رجل واحد من أهل الحل والعقد. ووجه ذلك، أن من المقطوع به كون الإجماع ليس شرطا لعقد الإمامة، وأنه لم يثبت دليل بعدد مخصوص، وأن العقود في الشرع تنعقد بعاقد واحـد، وإذا تعدى المتعدي عن الواحد، فليس عدد أولى من عدد، وإذا بطل عدد معين لانعدام الدليل عليه، صح الاكتفاء بعاقد واحد؛ قياسا على العقود في الشرع [4] .
ومع ترجيح الجويني لهذا القول، بيد أنه لم ير أن الدليل عليه دليل قاطع، بل دليل ظني؛ للاجتهاد فيه مجال. ودليل عدم القطعية، أن مبايعة عمر لأبي بكر، رضي الله عنهما، لو عارضها معترض، ما كان ثمة ما يعترض به عليه، من جهة أنه لم يوجد دليل قطعي على أن الإمامة تنعقد بواحد. [ ص: 67 ]
وتأسيسا على ما تقـدم، لو بايع رجل كثير الأتباع والأنصار، وكان ذا شوكة ومنعة، صحت بيعته، وانعقدت بها الإمامة؛ إذ انعقاد الإمامة بالواحد الذي تحصل به شوكة "ينطبق على مقصد الإمامة وسرها، فإن الغرض حصول الطاعة" [5] . ولو بايع رجال كثر، لا تحصل ببيعتهم شوكة ولا منعة، فلا تنعقد ببيعتهم الإمامة.
وحاصل كلام الجويني بخصوص مسألة المبحث، أن من المقطوع به كون الإجماع ليس شرطا في عقد الإمامة، وأن النساء، والعوام، وأهل الذمة، ليسوا من أهل الاختيار. أما المظنون في هذه المسألة، فشرط بلوغ العاقد رتبة الاجتهاد، وعدد العاقدين، وشهود العقد. [ ص: 68 ]