المسألة الثانية: قضية الحريات:
الحرية - بحسب الجويني - ليست حرية مطلقة تبيح للآخرين النيل من عقيدة المجتمع، وتعمل على تخريب عقول الناس، فتفسد عليهم دينهم، وتشككهم في معتقداتهم، فهذا ليس من الحرية في شيء، بل هو أقرب إلى تفشي الفساد، وانتشار الأفكار المنحرفة التي تودي بحياة المجتمع. يتضح ذلك من خلال انتقاده للخليفة المأمون حين سمح للفرق المختلفة، والتيارات المتعارضة أن تظهر أفكارها، وتعبر عن آرائها، معتبرا أن هذا المسلك لا يخدم في النهاية مصلحة المجتمع، بل يؤدي إلى ظهور البدع، وانتشار العقائد الفاسدة التي تنخر في جسم المجتمع، وتقضي على مقوماته.
وتبدو قضية الحرية في كونها آلية لحماية الحقوق الخاصة للأفراد، وطريقا لمنع أصحاب السلطة والنفوذ من التعدي عليها. يظهر هذا التوجه عند الجويني من خلال اعتراضه على كل من ذهب إلى تجويز العقوبة المالية، أو الزيادة في العقوبات التعزيرية، معتبرا أن هذا المذهب "قد يستهين به [ ص: 126 ] الأغبياء، وهو في الحقيقة تسبب إلى مضادة ما ابتعث الله به الأنبياء" [1] . وهذا الموقف يحمل دلالة على حماية الحقوق الفردية، وتحصينها من التعدي عليها، وأن التعدي على حريات الآخرين، سواء أكان ذلك بتشريع العقوبات الخارجة عن ضبط الشرع، أم عن طريق التعزير المالي، أمر لا يتفق وما جاء به الشرع؛ إذ الأصل أن الناس مسلطون على أموالهم، ولا يجوز التعدي عليها بغير وجه مشروع.
والجويني حريص كل الحرص على صيانة حرية الأفراد وحمايتها من سطوة الحاكم ومن يلوذ به من الأعوان، فقرر عدم جواز التعدي في العقوبات، سواء منها البدنية أم المالية؛ فإن من تمام حرية الإنسان أن يأمن على نفسه، وأن يأمن على ماله، وأن يأمن على أهله، ولا سبيل لحفظ وحماية كل ذلك إلا بتقييد يد الحكام من التسلط على أنفس الناس وعلى أموالهم. من هنا يقرر أنه لا يحل "للإمام أن يمد يده إلى أموال أهل الإسلام؛ ليبتني بكل ناحية حرزا، ويقتني ذخيرة وكنـزا، ويتأثل مفخرا وعزا" [2] ، فأموال الناس محترمة ومصونة.
ويدخل في نطاق اعتبار الجويني للحرية الإنسانية رفضه معاقبة أصحاب التهـم قبل ارتكابـهم للتهم، واعتباره ذلك خروجا عن سنن الشرع [3] [ ص: 127 ] ؛ إذ العقوبة في الشرع لا تكون إلا بارتكاب ما هو ممنوع فعله ومحظور إتيانه، وما لم يقترف الشخص ممنوعا أو محظورا، فلا ينبغي أن يعاقب لمجرد التهمة. وهذا المنحى لا شك أنه يصب في النهاية في مسألة الحرية؛ إذ إن القول بجواز المعاقبة على التهم فيه إطلاق لأيدي الحكام في التسلط على الناس لمجرد التهم، وهذا المسلك فيه من الفساد ما فيه.
ومن هذا الباب موقف الجويني من توبة الزنديق، وهو موقف يدل على اهتمام الجويني بمبدأ الحريات الشخصية، خوفا من تسلط من بيدهم الأمر عليها. فهو يخالف من ذهب إلى عدم صحة توبة الزنديق، معتبرا أن الأحكام تجري بحسب الظاهر، أما ما وراء ذلك فهو متروك لرب السرائر [4] .