فجئت في ذاك بهذا الرجز لخصت منهن بلفظ موجز
وفق قراءة أبي رؤيم المدني ابن أبي نعيم
حسبما اشتهر في البلاد بمغرب لحاضر وبادي
وقوله: وفق مفعول لخصت، أي: لخصت من الكتب الثلاثة بلفظ مختصر الرسم الموافق لقراءة الذي هو الإمام أبي رؤيم المدني وحسب من قوله: حسبما بفتح السين بمعنى مثل؛ صفة لموصوف محذوف، أي: تلخيصا، وما مصدرية، وفاعل اشتهر ضمير يعود على مقرئ نافع بن أبي نعيم، وباء بمغرب بمعنى في، وهو بدل من قوله: في البلاد، ولام الحاضر بمعنى عند، والحاضر ساكن الحاضرة، والبادي ساكن البادية، والتقدير: خصصت منهن مقرئ نافع، بالذكر كما اختص بالشهرة في نافع المغرب، ومعنى ما ذكر من تلخيصه الرسم الموافق لقراءة من الكتب الثلاثة، أن تلك الكتب تعرض مؤلفوها لما خالفت فيه المصاحف العثمانية الرسم القياسي باعتبار قراءات الأئمة السبعة، والناظم لم يتعرض من ذلك إلا لما خالفته فيه باعتبار قراءة نافع المشتهرة نافع بالمغرب.
والرجز أحد البحور الخمسة عشر المشهورة، وأجزاؤه: مستفعلن ست مرات، وقد أتى الناظم بأبيات كثيرة من بحر السريع، وأجزاؤه: مستفعلن مستفلن مفعولات مرتين، كقوله:
أثبته وجاء ربانيون عنه بحذف مع ربانيين
وقوله: بالتصغير كنية أبو رؤيم والمدني نسبة إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، لنافع، هو أحد الأئمة القراء السبعة الذين اشتهر ذكرهم في جميع الآفاق، ووقع على فضلهم وجلالتهم الاتفاق، [ ص: 25 ] وهو ونافع: بفتح وسكون العين، وفتح الواو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم مولى جعونة ابن شعوب الليثي، وجعونة حليف وقيل غير ذلك. حمزة بن عبد المطلب،
وأصل نافع من أصبهان وهو من الطبقة الثانية بعد الصحابة، ويكنى بأبي رؤيم، وأبي نعيم وأبي عبد الله، وأبي عبد الرحمن، وأبي الحسن، والأولى أشهر كناه؛ ولذا اقتصر عليها الناظم.
وكان -رضي الله عنه- عالما صالحا خاشعا مجابا في دعائه، إماما في علم القرآن، وعلم العربية، أم الناس في الصلاة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة، قرأ على سبعين من التابعين، وقرأ على الموطأ، وقرأ عليه مالك القرآن، وقال: قراءة مالك سنة، انتهت إليه رئاسة الإقراء نافع بالمدينة المشرفة، وأجمع الناس عليه بعد شيخه أبي جعفر، وقرأ عليه: مائتان وخمسون رجلا، وكان إذا تكلم تشم من فيه رائحة المسك، فقيل له: أتتطيب كلما قعدت تقرئ الناس؟ فقال: ما أمس طيبا، ولا أقرب طيبا، ولكني رأيت -فيما يرى النائم- النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في في، وفي رواية يتفل في فمي، فمن ذلك الوقت تشم من في هذه الرائحة، قال المسيبي: قلت ما أصبح وجهك وأحسن خلقك! فقال: وكيف لا وقد صافحني رسول الله صلى الله عليه وسلم. لنافع:
ولد -رضي الله عنه- سنة سبعين، وتوفي بالمدينة سنة تسع وستين ومائة للهجرة في خلافة الهادي على الأصح، وروي أنه لما حضرته الوفاة، قال له أبناؤه: أوصنا. فقال: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، قال أبو محمد مكي في التبصرة: وكان (يعني نافعا) يقرئ الناس بكل ما قرئ عليه مما رواه إلا أن يسأله إنسان عن قراءته، فيأخذ عليه فلذلك كثر الاختلاف عنه. انتهى.
وزاد في الإبانة إيضاحا فقال ما نصه: فإن سأل سائل فقال: ما العلة التي من أجلها كثر الاختلاف عن هؤلاء الأئمة؛ يعني السبعة، وكل واحد منهم قد انفرد بقراءة اختارها مما قرأ به على أئمته، فالجواب: أن كل واحد من الأئمة قرأ على جماعات بقراءات مختلفة، فنقل ذلك على ما قرأ، فكانوا في برهة من أعمارهم يقرئون الناس بما قرأوا فمن قرأوا عليهم بأي حرف كان لم يردوه عنه إذا كان ذلك مما قرأوا به على أئمتهم، ألا [ ص: 26 ] ترى أن قال: قرأت على سبعين من التابعين فما اتفق عليه اثنان أخذته وما شذ فيه واحد تركته، وقد روي عنه أنه يقرئ الناس بكل ما قرأ به حتى يقال له: نريد أن نقرأ عليك باختيارك مما رويت، وهذا: نافعا ربيبه وأخص الناس به، قالون أشهر الناس في المتحملين عنه: اختلفا في أكثر من ثلاثة آلاف حرف من قطع، وهمز، وتخفيف، وإدغام، وشبهه، ولم يوافق أحد من الرواة عن وورش رواية نافع عنه، ولا نقلها أحد عن ورش غير ورش، وإنما ذلك; لأن نافع قرأ عليه بما تعلم في بلده، فوافق ذلك رواية قرأها نافع على بعض أئمته فتركه على ذلك، وكذلك ما قرأ عليه ورشا وغيره، وكذلك الجواب عن اختلاف الرواة عن جميع القراء، وقد روي عن غير قالون أنه كان لا يرد على أحد ممن يقرأ عليه إذا وافق ما قرأ به على بعض أئمته، فإن قيل له: أقرئنا بما اخترته من روايتك أقرأ بذلك. انتهى ببعض حذف. نافع