الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      ثم قال:


      فجئت في ذاك بهذا الرجز لخصت منهن بلفظ موجز


      وفق قراءة أبي رؤيم     المدني ابن أبي نعيم


      حسبما اشتهر في البلاد     بمغرب لحاضر وبادي

      أخبر أنه جاء وأتى بهذا الرجز في ذاك، أي: الرسم المتقدم، وأنه لخص منهن، أي: من الكتب الثلاثة المتقدمة، وهي: المقنع، والعقيلة، والتنزيل بلفظ موجز، أي: مختصر.

      وقوله: وفق مفعول لخصت، أي: لخصت من الكتب الثلاثة بلفظ مختصر الرسم الموافق لقراءة أبي رؤيم المدني الذي هو الإمام نافع بن أبي نعيم، وحسب من قوله: حسبما بفتح السين بمعنى مثل؛ صفة لموصوف محذوف، أي: تلخيصا، وما مصدرية، وفاعل اشتهر ضمير يعود على مقرئ نافع، وباء بمغرب بمعنى في، وهو بدل من قوله: في البلاد، ولام الحاضر بمعنى عند، والحاضر ساكن الحاضرة، والبادي ساكن البادية، والتقدير: خصصت منهن مقرئ نافع بالذكر كما اختص بالشهرة في المغرب، ومعنى ما ذكر من تلخيصه الرسم الموافق لقراءة نافع من الكتب الثلاثة، أن تلك الكتب تعرض مؤلفوها لما خالفت فيه المصاحف العثمانية الرسم القياسي باعتبار قراءات الأئمة السبعة، والناظم لم يتعرض من ذلك إلا لما خالفته فيه باعتبار قراءة نافع المشتهرة بالمغرب.

      والرجز أحد البحور الخمسة عشر المشهورة، وأجزاؤه: مستفعلن ست مرات، وقد أتى الناظم بأبيات كثيرة من بحر السريع، وأجزاؤه: مستفعلن مستفلن مفعولات مرتين، كقوله:

      أثبته وجاء ربانيون     عنه بحذف مع ربانيين

      فأما أنه أراد بالرجز معناه اللغوي، وهو كل ما قصرت أجزاؤه، أو أنه غلب الرجز الاصطلاحي; لأن أبياته الواقعة في النظم أكثر من أبيات السريع.

      وقوله: أبو رؤيم بالتصغير كنية لنافع، والمدني نسبة إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ونافع: هو أحد الأئمة القراء السبعة الذين اشتهر ذكرهم في جميع الآفاق، ووقع على فضلهم وجلالتهم الاتفاق، [ ص: 25 ] وهو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم مولى جعونة بفتح وسكون العين، وفتح الواو ابن شعوب الليثي، وجعونة حليف حمزة بن عبد المطلب، وقيل غير ذلك.

      وأصل نافع من أصبهان وهو من الطبقة الثانية بعد الصحابة، ويكنى بأبي رؤيم، وأبي نعيم وأبي عبد الله، وأبي عبد الرحمن، وأبي الحسن، والأولى أشهر كناه؛ ولذا اقتصر عليها الناظم.

      وكان -رضي الله عنه- عالما صالحا خاشعا مجابا في دعائه، إماما في علم القرآن، وعلم العربية، أم الناس في الصلاة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة، قرأ على سبعين من التابعين، وقرأ على مالك الموطأ، وقرأ عليه مالك القرآن، وقال: قراءة نافع سنة، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالمدينة المشرفة، وأجمع الناس عليه بعد شيخه أبي جعفر، وقرأ عليه: مائتان وخمسون رجلا، وكان إذا تكلم تشم من فيه رائحة المسك، فقيل له: أتتطيب كلما قعدت تقرئ الناس؟ فقال: ما أمس طيبا، ولا أقرب طيبا، ولكني رأيت -فيما يرى النائم- النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في في، وفي رواية يتفل في فمي، فمن ذلك الوقت تشم من في هذه الرائحة، قال المسيبي: قلت لنافع: ما أصبح وجهك وأحسن خلقك! فقال: وكيف لا وقد صافحني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

      ولد -رضي الله عنه- سنة سبعين، وتوفي بالمدينة سنة تسع وستين ومائة للهجرة في خلافة الهادي على الأصح، وروي أنه لما حضرته الوفاة، قال له أبناؤه: أوصنا. فقال: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، قال أبو محمد مكي في التبصرة: وكان (يعني نافعا) يقرئ الناس بكل ما قرئ عليه مما رواه إلا أن يسأله إنسان عن قراءته، فيأخذ عليه فلذلك كثر الاختلاف عنه. انتهى.

      وزاد في الإبانة إيضاحا فقال ما نصه: فإن سأل سائل فقال: ما العلة التي من أجلها كثر الاختلاف عن هؤلاء الأئمة؛ يعني السبعة، وكل واحد منهم قد انفرد بقراءة اختارها مما قرأ به على أئمته، فالجواب: أن كل واحد من الأئمة قرأ على جماعات بقراءات مختلفة، فنقل ذلك على ما قرأ، فكانوا في برهة من أعمارهم يقرئون الناس بما قرأوا فمن قرأوا عليهم بأي حرف كان لم يردوه عنه إذا كان ذلك مما قرأوا به على أئمتهم، ألا [ ص: 26 ] ترى أن نافعا قال: قرأت على سبعين من التابعين فما اتفق عليه اثنان أخذته وما شذ فيه واحد تركته، وقد روي عنه أنه يقرئ الناس بكل ما قرأ به حتى يقال له: نريد أن نقرأ عليك باختيارك مما رويت، وهذا: قالون ربيبه وأخص الناس به، وورش أشهر الناس في المتحملين عنه: اختلفا في أكثر من ثلاثة آلاف حرف من قطع، وهمز، وتخفيف، وإدغام، وشبهه، ولم يوافق أحد من الرواة عن نافع رواية ورش عنه، ولا نقلها أحد عن نافع غير ورش، وإنما ذلك; لأن ورشا قرأ عليه بما تعلم في بلده، فوافق ذلك رواية قرأها نافع على بعض أئمته فتركه على ذلك، وكذلك ما قرأ عليه قالون وغيره، وكذلك الجواب عن اختلاف الرواة عن جميع القراء، وقد روي عن غير نافع أنه كان لا يرد على أحد ممن يقرأ عليه إذا وافق ما قرأ به على بعض أئمته، فإن قيل له: أقرئنا بما اخترته من روايتك أقرأ بذلك. انتهى ببعض حذف.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية