وأما أن يخالفوا ما فطر الله عليه عباده، وما أنزل به كتبه وأرسل به رسله بمقاييس لا تدل لهم إلا بمقدمات كثيرة مركبة، لا بد فيها من الاستدلال بما هو في الفطرة دون ما دفعوه أو مثله مع ما فيها من الألفاظ المشتركة وغيرها: فهذا لا يفعله إلا جاهل أو ظالم أو من جمع الأمرين، بل هو من أعظم العالمين جهلا وظلما لكونه تكلم في الله وأسمائه وآياته بمثل هذا العقل الفاسد، وكان من أعظم المطففين في أصول الدين.
فإذا كان المطففون في الأموال قد قال الله تعالى فيهم: ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [المطففين: 1-6] وقد جاء في الحديث: " الصلاة مكيال، فمن وفى وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين" فكيف في أصول الدين، بل في أعظم [ ص: 110 ] أبواب أصول الدين، وهو الكلام في رب العالمين وأسمائه وصفاته يكون فيه هذا التطفيف والإخسار العظيم، فيبطلون ما فطر الله عباده عليه، وأنزل به كتبه بمقاييسهم، ويمنعون غيرهم أن يحتج بها عليهم، وهي عليهم أدل منها لهم، وهذا من أعظم الجهل والظلم. والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرا من عباده، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا.
يقرر هذا أن الكلام في الشيء نفيا وإثباتا مسبوق بتصوره، فليس للإنسان أن ينفي شيئا عن شيء أو يثبته له إلا بعد تصوره تصورا يمكن معه النفي والإثبات. أو فوق العالم، أو غير ذلك، أو قال: ليس بجسم، ولا جوهر، ولا متحيز، ولا في جهة، ولا فوق العالم. أو قال: إن له علما وقدرة وحياة. أو قال: ليس له علم ولا قدرة ولا حياة فكل واحد [ ص: 111 ] من هذين لا بد أن يتصور ما نفاه وما أثبته فمن أثبت لله سبحانه وتعالى أمرا من الصفات فإنما أثبته بعد أن فهم نظير ذلك من الموجودات، وأثبت به القدر المطلق مع وصفه له بخاصة تمتنع فيها الشركة. ومن نفى عن الله شيئا من هذه الأمور فإنما نفى ما علم نظيره في الموجودات ونفى عن الله أن يكون له مثل ما للمخلوق من ذلك لم ينف ما يختص به الرب مما لم يعلم نظيره، فإن هذا لم يتصوره حتى يحكم عليه بالنفي. فإذا قال القائل عن موجود: إنه جسم، أو هو جوهر أو متحيز أو في جهة
فالنافي لا ينفي شيئا قط إلا ما له نظير فيما أدركه، لأن نفس المنفي ما علمه أصلا، لأن النفي المحض لا يعلم بنفسه، فإن النفس لا تباشر المعدوم حتى تشعر به، وإنما تباشر الموجود وتقيس له نظيرا، فينفي ذلك النظير عما هو منتف عنه، مثل نفيها لجبل ياقوت وبحر زئبق ونحو ذلك بعد أن علمت البحر والزئبق والجبل والياقوت ثم قدرت معلوما مؤلفا من شيئين نظيرهما [ ص: 112 ] موجود ثم نفته، وكذلك النفي عن الله من الشركاء والأولاد والنوم وغير ذلك يعلم وجوده في العالم، ثم يقدر نظير هذا الموجود في حق الله تعالى في الذهن وينفي عن الله تعالى. فأما نفيه قبل العلم به من جهة القياس فممتنع، فإنه لا يكون معلوما ولا يعلم المعدوم إلا بنوع قياس. فإذا كل ناف فلا بد له من القياس على ما في الموجودات الجسمانية. وأما المثبت فإنه وإن احتاج إلى نوع قياس فإنه يثبت معه الفارق الذي يقطع المماثلة بالأمور المخلوقة، فهو وإن كان جامعا فمعه فارق أقوى من جامعه بخلاف الثاني، فإن عمدته على الجامع وهو القدر المشترك الذي ينفيه.