الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال أبو سليمان الخطابي في " كتاب شعار الدين " وهو في أصول الدين: " القول في أنه مستو على العرش. هذه المسألة سبيلها التوقيف المحض، ولا يصل إليه الدليل من غير هذا الوجه، وقد نطق الكتاب به في غير آية، ووردت به الأخبار الصحيحة، فقبوله من جهة التوقيف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية له غير جائز. وقد قال أبو عبد الله مالك بن أنس رحمه الله، وسئل عن قول الله: الرحمن على العرش استوى فقال: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وذكر المواضع التي في القرآن من ذكر [ ص: 492 ] العرش وقوله: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض وقال: أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا [الملك: 17] وقال: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [المعارج: 4] وقال: بل رفعه الله إليه [النساء: 158] وقال: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال حكاية عن فرعون أنه قال: يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى [غافر: 36-37] فوقع قصد الكافر إلى الجهة التي أخبره موسى عنها، لذلك لم يطلبه في طول الأرض وعرضها، ولم ينزل إلى طبقات الأرض سفلا، فدل ما تلوناه من هذه الآيات على أن الله في السماء، ومستو على العرش، ولو كان بكل مكان لم يكن لهذا الاختصاص معنى ولا فيه فائدة.

قال: وقد جرت عادة المسلمين خاصتهم وعامتهم أن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه، ويرفعوا أيديهم إلى السماء، [ ص: 493 ] وذلك لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو في السماء سبحانه وتعالى.

قال: واعترض من خالف هذا بقوله: وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم [الأنعام 3] وبقوله: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم [الزخرف: 84] وبقوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم [المجادلة: 7] ونحو هذا من آي القرآن، وهذا لا يقدح في الآي التي تلوناها قبل، ولا يخالفها، والخبر عن حال الشيء وصفته من جهة غير الخبر عن نفس الشيء وذاته، وإنما هذا كقول القائل: فلان في السوق معروف وفي البلاد. وجائز أن يكون فلان في بيته وقت هذا الكلام غائبا عن السوق وعن البلاد، وإنما المعنى في هذه الآي إثبات علمه وقدرته في السماء والأرض، وهو في الآي المتقدم إخبار عن الذات، والاستواء على العرش حسب. من غير قران لذلك بصلة أو تعليق له بشيء آخر، فأحد الكلامين قائم بنفسه، والكلام الآخر إنما سيق لغيره وتعدى إلى ما سواه، وهو يجمع قضيتين اثنتين، والكلام الأول قضية واحدة.

قال: وزعم بعضهم أن معنى الاستواء هاهنا الاستيلاء، ونزع فيه [ ص: 494 ] ببيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله، ولو كان معنى الاستواء هاهنا الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة لأن الله قد أحاط ملكه وقدرته بكل شيء من الأشياء، وبكل قطر وبقعة من السماوات والأرض، وما تحت الثرى، فما معنى تخصيصه العرش بالذكر؟ ثم إن الاستيلاء إنما يتحقق معناه عند المنع عن الشيء، فإذا وقع الظفر قيل: استولى عليه، فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده؟ وكذلك لو كان بكل مكان كما زعموا لم يكن لتخصيصه العرش بالذكر فائدة، فثبت أنه ليس المعنى إلا ما أشار إليه التوقيف.

التالي السابق


الخدمات العلمية