الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وضلال هؤلاء الجهمية في قدره كضلال القدرية في [ ص: 40 ] فعله، وكلاهما من وصفه؛ ولهذا كانت المعتزلة ضالة في الوجهين جميعا. وقد قابلهم بنوع من الضلال بعض أهل الإثبات حتى نفوا ما أثبتته النصوص. والله يهدينا الصراط [ ص: 41 ] المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وبيان ما في الحديث الصحيح من قوله: " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء " أنه من المعلوم أن ( فوق ) و ( دون ) من الأسماء التي تسميها النحاة ( ظروف المكان ) لدلالة لفظها على المكان اللغوي. فأما لفظ الفوق فظاهر وهو بحسب المضاف إليه، فكون الشيء ( فوق ) لا ينافي أن يكون تحت غيره، وانتفاء أن يكون فوقه شيء لا يمنع أن يكون تحته شيء، فقوله: " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء " فنفى أن يكون فوق الله شيء، وذلك يقتضي أنه سبحانه وتعالى أكمل شيء ظهورا. والظهور يتضمن العلو، فلهذا قال: " فليس فوقك شيء " ولم يقل: فليس أظهر منك شيء؛ لأنه لو أراد مجرد الانكشاف والتجلي للناس لنافى ذلك وصفه بالبطون؛ لأن كون الشيء ظاهرا بمعنى كونه معلوما أو مشهودا ينافي كونه باطنا، ولكن الظهور يتضمن معنى العلو ومن شأن العالي أبدا أن يكون ظاهرا متجليا بخلاف السافل، فإن من شأنه أن يكون خفيا لأنه إذا علا تراءى للأبصار فرأته، فهو سبحانه مع ظهوره المتضمن علوه فلا شيء فوقه، وهو أيضا باطن فلا شيء دونه.

ولفظ ( الدون ) ليس المراد به الدون أي الناقص. ولكن لما [ ص: 42 ] كان يقال: هذا دون هذا. أي دونه بمعنى أنه يحصل دونه، ويجعل الآخر فوقه صار يفهم من اللفظ هذا؛ بل هذا اللفظ في كتاب الله تعالى في مواضع؛ قال تعالى ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا [الكهف: 89-90] إلى قوله: ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا [الكهف: 92-93] فقوله: لم نجعل لهم من دونها سترا بين أن الستر إذا كان عليهم كالسقوف كان ذلك من دون الشمس، فيكون بينهم وبين الشمس وتكون الشمس محجوبة مستورة عنهم بذلك الستر، فتكون هي أبطن عنهم من الستر، والستر أدنى إليهم، وتكون الشمس من ورائه وكذلك قوله: حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا الآية. فهؤلاء القوم كان السدان من ورائهم.

إذا في قولك: هذا، فوق هذا. وهذا دون هذا. ثلاثة أسماء: اسم مضاف إليه، وظرف مضاف إلى هذا الاسم، واسم أول متصل بالظرف ومتعلق به، ويقال: هذا هو مضاف إليه إضافة معنوية، كما يقال: حروف الجر تضيف معاني الأسماء إلى الأفعال.

فإذا قيل وجد من دونهما قوما فالقوم هم المتعلقون [ ص: 43 ] بالمكان الذي هو دون السدين، والسدان هما المضاف إليهما، فكونهما دون السدين هو بالنسبة إلى ذي القرنين اللذين وجدهما هناك؛ فإنه وجدهم إليه أدنى وأقرب، والسدان أبعد، والقرب إليه أحق بالظهور والبيان. والبعيد عنه أولى بالاحتجاب والاستتار. هذه هي العادة فيما يقرب إلينا ويبعد عنا من الأجسام. ولو جاء أحد من جهة السد لقال: وجدت هؤلاء دون ذي القرنين. فالشيء الذي بين اثنين يقول: هذا هو دونك، ويقول الآخر: هذا دونك. وكل منهما صادق، كما لو كان بينهما حائط أو نهر أو بحر، لقال هؤلاء لأهل تلك الناحية: هذا دونكم. وكذلك يقول الآخرون: هذا دونكم، كما أن كل أهل جانب يقولون عن الأخرى: هم من وراء هذا الحائط ومن خلفه إذ الجهات أمور نسبية إضافية، وكذلك قال تعالى: ومن دونهما جنتان [الرحمن: 62] فهاتان دون تلك، والأوليان فوق هاتين وهاتان أدنى إلينا.

ولهذا صار في هذا اللفظ معنى القرب والبعد من وجه ومعنى الاحتجاب والاختفاء من وجه. فقوله: " وأنت الباطن فليس دونك شيء " نفى أن يكون شيء دونه كما نفى أن يكون فوقه. ولو قدر فوقه شيء لكان أكمل منه في العلو والبيان إذ هذا شأن الظاهر. ولو كان دونه شيء لكان أكمل منه في الدنو والاحتجاب إذ هذا شأن الباطن. وهذا يوافق قوله: " إنكم [ ص: 44 ] لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " وقوله: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ".

[ ص: 45 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية