الوجه الخامس والعشرون: أن يقال: هب أن سببه هذه [ ص: 606 ] العادة، هل سببها علم صحيح واعتقاد مطابق، أو سببها تخيل فاسد؟ أما الأول فهو حجة في المسألة. وأما الثاني فممنوع. وهو لم يذكر على ذلك حجة إلا قوله: إنهم ما شاهدوا عالما قادرا حيا إلا جسما إلا أنهم قاسوا العالم القادر الحي الغائب على ما شاهدوه من العلماء والأحياء القادرين فصاروا بمنزلة من لم ير من الناس إلا الأسود، ولم يسمع إلا العربية، فإذا مثل في نفسه إنسانا أو لغة لم يسبق إلى نفسه إلا الأسود والعربية.
ومعلوم أن هذا قياس فاسد، وذلك أن من لم ير إنسانا إلا أسود ولم يسمع لغة إلا العربية إنما يسبق إلى نفسه الأسود إذا مثل إنسانا يخاطبه، وإنما يسبق إلى نفسه العربية إذا مثل في نفسه التعبير، لأن الذي مثله في نفسه من جنس الذي شاهده، والتخيل يتبع الإحساس. وكان الذي تخيله من جنس الذي أحسه لما علم أن جنسهما واحد، والباري سبحانه وتعالى ليس هو عندهم ولا عند غيرهم من جنس الآدميين حتى تكون نسبته إلى ما شاهدوه من الأحياء العالمين القادرين نسبة ما لم ير من الآدميين إلى من رئي، بل عامتهم لم يخطر بقلبهم أن الله من جنس الآدميين مشارك لهم في الحقيقة حتى يكون لحما ودما ونحو ذلك، بل هؤلاء كلهم ينزهون الله تعالى عن ذلك، ولا يعرف في عامة المقرين بالصانع من قال بشيء من ذلك، إلا ما ذكره أرباب [ ص: 607 ] المقالات عن شرذمة من المشبهة، ومع هذا فلا بد أن يجعل هؤلاء له من المقدار والصفات ما يفرقون بينه وبين الآدميين، فعلم أن هذا الذي احتج به باطل. هؤلاء الذين يدعون الله برفع الأيدي إلى فوق