الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل وكان من الحوادث عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم: تغير أحوال كسرى المسمى: أبرويز :

وكانت دجلة تجري قديما في أرض كوجى في مسالك محفوظة إلى أن تصب في بحر فارس ، ثم غورت وجرت صوب واسط فأنفق الأكاسرة على سدها وإعادتها إلى مجراها القديم ، فغرم على ذلك أموالا كثيرة ، ولم يثبت السد .

فلما ولي قباذ بن فيروز انبثق في أسافل كسكر بثق عظيم ، وغلب الماء فأغرق عمارات كثيرة ، فلما ولي أنوشروان بنى مسنيات ، فعاد بعض تلك العمارة ، وبقيت على ذلك إلى ملك أبرويز بن هرمز بن أنوشروان ، وكان من أشد القوم بطشا ، وتهيأ له ما لم يتهيأ لغيره ، فسكر دجلة العوراء ، وأنفق عليها ما لا يحصى ، وبنى طاق مجلسه ، وكان يعلق فيه تاجه ويجلس والتاج فوق رأسه معلق من غير أن يكون له على رأسه ثقل .

قال وهب بن منبه: وكان عنده ثلاثمائة وستون رجلا من الحزاة - وهم العلماء - من بين كاهن وساحر ومنجم ، وكان فيهم رجل من العرب يقال له: السائب يعتاف اعتياف العرب قلما يخطئ ، بعث به إليه باذان من اليمن فكان كسرى إذا حزبه أمر جمع كهانه وسحرته ومنجميه فقال: انظروا في هذا الأمر ما هو . فلما أن بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أصبح كسرى ذات غداة قد انفصمت طاق من وسطها وانخرقت على دجلة العوراء "شاه بشكست" يقول: الملك انكسر . ثم دعا كهانه وسحرته ومنجميه ودعا السائب معهم ، فأخبرهم بذلك ، وقال: انظروا في هذا الأمر فنظروا ، فأظلمت عليهم الأرض فتسكعوا في عملهم ، فلم يمض لساحر سحره ، ولا لكاهن كهانته ، ولا لمنجم علم نجومه . [ ص: 361 ]

وبات السائب في ليلة ظلماء على ربوة من الأرض يرمق برقا نشأ من قبل الحجاز ، ثم استطار حتى بلغ المشرق ، فلما أصبح ذهب ينظر إلى ما تحت قدميه ، فإذا روضة خضراء . فقال فيما يعتاف: لئن صدق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق تخصب عنه الأرض كأفضل ما أخصبت عن ملك كان قبله .

فلما اجتمع الحزاة قال بعضهم لبعض: والله ما حيل بينكم وبين علمكم إلا لأمر جاء من السماء وإنه لنبي قد بعث ، أو هو مبعوث يسلب هذا الملك ويكسره ، وإن نعيتم إلى كسرى ملكه ليقتلنكم ، فأقيموا بينكم أمرا تقولونه فجاءوا كسرى فقالوا له: قد نظرنا هذا الأمر فوجدنا حسابك الذين وضعت على حسابهم طاق ملكك وسكرت دجلة العوراء ، ووضعوه على النحوس وإنا سنحسب لك حسابا ، تضع بنيانك فلا يزول ، قال: فاحسبوا . فحسبوا له ثم قالوا: ابنه ، فبناه . فعمل في دجلة ثمانية أشهر ، وأنفق فيها من الأموال ما لا يدرى ما هو ، حتى إذا فرغ قال [لهم:] أجلس على سورها ، قالوا: نعم فأمر بالبسط والفرش والرياحين . فوضعت عليها [وأمر بالمرازبة فجمعوا له ، وجمع اللعابون وخرج حتى جلس عليها] فبينا هو هنالك انشقت دجلة وانهار البنيان من تحته ، فلم يستخرج إلا بآخر رمق ، فلما أخرج قتل من الحزاة قريبا من مائة ، وقال تلعبون بي؟ قالوا: أيها الملك ، أخطأنا كما أخطأ من كان قبلنا ولكنا سنحسب لك حسابا حتى تضعها على الوفاق من السعود .

قال: انظروا ما تقولون . قالوا: فإنا نفعل ، فحسبوا له ، ثم قالوا له: ابنه فبنى وأنفق من الأموال ما لا يدرى ما هو ثمانية أشهر ، ثم [قال:] أفأخرج فأقعد؟ قالوا:

نعم . فركب برذونا له وخرج يسير عليها إذ انشقت دجلة بالبنيان ، فلم يدرك إلا بآخر رمق ، فدعاهم فقال: والله لأمرن على آخركم ، ولأترعن أكتافكم ، ولأطرحنكم تحت أيدي الفيلة أو لتصدقني ما هذا الأمر الذي تلفقون به علي؟

قالوا: لا نكذبك ، أيها الملك أمرتنا حين انخرقت عليك دجلة وانفصمت طاق [ ص: 362 ] مجلسك أن ننظر في عملنا فنظرنا ، فأظلمت علينا الأرض وأخذ علينا بأقطار السماء ، فلم يستقم منا لعالم علمه ، فعلمنا أن هذا لأمر حدث من السماء ، وأنه قد بعث نبي أو هو مبعوث ، فلذلك حيل بيننا وبين علمنا ، فخشينا إن نعينا إليك ملكك أن تقتلنا ، فعللناك عن أنفسنا بما رأيت ، فتركهم ولهى عنهم وعن دجلة حتى غلبته .

أنبأنا بهذا الحديث: أبو البركات عبد الوهاب الأنماطي بإسناد له عن أبي بكر بن أبي الدنيا .

حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب ، حدثنا إبراهيم بن سعد قال: قال: ابن إسحاق :

كان من حديث كسرى قبل أن يأتيه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني أنه كان سكر دجلة العوراء ، فألقى فيها من الأموال ما لا يدرى ما هو - وذكر الحديث بعينه .

وقال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم ، عن الحسن البصري: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله ، ما حجة الله على كسرى فيك؟ قال: "بعث الله عز وجل إليه ملكا فأخرج يده من سور جدار بيته الذي هو فيه تلألأ نورا ، فلما رآها فزع فقال: لم ترع يا كسرى ، إن الله قد بعث رسولا ، وأنزل عليه كتابا ، فاتبعه تسلم دنياك وآخرتك . قال: سأنظر . وروى ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال:

بعث الله عز وجل إلى كسرى وهو في بيت من [بعض] بيوت إيوانه الذي لا يدخل عليه فيه ، فلم يرعه إلا به قائما على رأسه في يده عصا بالهاجرة في ساعته التي كان يقيل فيها ، فقال: يا كسرى ، أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال: بهل بهل . [ ص: 363 ]

فانصرف عنه فدعا حراسه وحجابه فتغيظ عليهم ، وقال: من أدخل هذا الرجل علي؟ قالوا: ما دخل عليك أحد ولا رأيناه . حتى إذا كان العام القابل أتاه في الساعة التي أتاه فيها ، فقال له كما قال له ، ثم قال له: أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال: بهل بهل ، فخرج عنه فدعا كسرى حجابه وبوابيه ، فتغيظ عليهم ، وقال لهم كما قال لهم في النوبة الأولى . فقالوا: ما رأينا أحدا دخل عليك . حتى إذا كان في العام الثالث أتاه في الساعة التي جاءه فيها ، وقال له كما قال ، ثم قال: أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال:

بهل بهل . فكسر العصا ، ثم خرج ، فلم يكن إلا تهور ملكه ، وانبعاث ابنه والفرس حتى قتلوه .

قال الزهري : حدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث بهذا الإسناد ، عن أبي سلمة فقال: ذكر لي أن الملك إنما دخل عليه بقارورتين في يده ، ثم قال: أسلم ، فلم يفعل ، فضرب أحدهما على الأخرى فرضهما ، ثم خرج فكان من هلاكه ما كان .

أنبأنا عبد الوهاب بإسناد له عن ابن أبي الدنيا قال: حدثني أبو صالح المروزي قال: سمعت حاتم بن عطاء قال: سمعت خالد بن ويدة - وكان رأسا في المجوسية فأسلم - قال:

كان كسرى إذا ركب ركب أمامه رجلان ، فيقولان له ساعة بساعة: أنت عبد ولست برب فيشير برأسه: أي نعم ، قال: فركب يوما فقالا له ذلك ، فلم يشر برأسه ، فشكيا ذلك إلى صاحب [شرطته فركب صاحب] شرطته ليعاتبه ، وكان كسرى قد نام ، فلما وقع صوت حافر الدواب في سمعه استيقظ ، فدخل عليه صاحب شرطته فقال: أيقظتموني ولم تدعوني أنام ، إني رأيت أنه رقي بي فوق سبع سماوات فوقفت بين يدي الله تعالى ، وإذا رجل بين يديه عليه إزار ورداء ، فقال لي: سلم مفاتيح خزائن [ ص: 364 ] أرضي إلى هذا ، ألست المأمور كذا؟ فلم يغير فإلى إن أردت أن أقول استردها منه فأيقظتموني .

قال: وصاحب الإزار والرداء ، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية