الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الحادي والعشرون: قوله في " نهايته ": الإشارة إلى فوق سببها الإلف والعادة وجريان الناس على ذلك، وقد ذكر مستند هذه العادة أنه مستند فاسد".

[ ص: 561 ] يقال: هذه المقدمة تقرر بوجوه:

أحدها: أن ذلك يستلزم علما ضروريا بأن مدعوهم فوق كما تقدم من أنهم يجدون هذا العلم الفطري الضروري، وأنهم يخبرون بألسنتهم أنهم يجدونه، وأن أفعالهم وأقوالهم تدل على أنهم يجدونه، وهذا العلم يلزم نفوسهم لزوما لا يمكنهم الانفكاك عنه أعظم من لزوم العلم الضروري بالأمور الحسابية والطبيعية، مثل كون الواحد ثلث الثلاثة، وأن الجسم لا يجتمع في مكانين، وذلك أن ذلك علم مجرد ليسوا مضطرين إليه بل قد لا يخطر ذلك ببال أحدهم، وأما هذا العلم فهم مع كونهم مضطرين إليه هم مضطرون إلى موجبه ومقتضاه، وهو الدعاء والسؤال والذل والخضوع للمدعو المعبود الذي هو فوق، فهم مضطرون إلى العلم وإلى العمل الذي يتبع هذا العلم وهو السؤال والطلب، وإن كان فيهم من يكون عند ظنه الاستغناء يحمله الاستكبار على الإعراض عن هذا العلم والاعتراف والطلب والإرادة والدعاء، أو يحمله عليه اعتقاد فاسد أو عادة فاسدة فهذا لا يخرجه عن أن يكون ضروريا، فإن هذا من أعظم السفسطة التي يدعو إليها أهل التقليد للآباء وطلب العلو والفساد [ ص: 562 ] في الأرض. ومن المعلوم أنه مع قوة الصارف المعارض للداعي لا يكون حاله كحال الداعي الذي لم يعارضه صارف.

وما ذكر من مبادئ العلم الحسابي والطبيعي كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين وأن الجسم لا يكون في مكانين ونحو ذلك، ليس الداعي إلى هذا العلم قويا في النفوس ولا الصارف عنه قويا في النفس، ولهذا تجد عامة من يصير هذا العلم قائما بنفسه من عنده نوع نظر وبحث فيما يتعلق بذلك، وتجد الحاجة لمثل هذا النوع فساد خاص في عقله أو غرض جاء منه، وأما العلم الإلهي فهو أجل وأشرف، فإنه ضروري لبني آدم علما وإرادة؛ فطروا على ذلك، فوجود هذا العلم والإرادة الضروريتين في أنفسهم أكثر وأكثر من وجود ذلك والمعارض لهذا لا بد وأن يكون قويا: إما اعتقاد فاسد كاعتقاد الجهمية المتأولين الذين لم يكابروا العقل وليس لهم غرض في خلاف الدين، وإما إرادة فاسدة قوية كإرادة فرعون وقومه الذين قال الله [ ص: 563 ] فيهم: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [النمل: 14] وقال له موسى: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر [الإسراء: 102] وهذه الإرادة الفاسدة هي الهوى الذي يصد عن معرفة الحق وهو مرض في القلب يمنع ما فطر عليه من صحة الإدراك والحركة، كما يمنع مرض العين ما فطرت عليه من صحة الإدراك والحركة، وكذلك المرض في سائر الأعضاء فهؤلاء الذين لا يجدون في أنفسهم علما ضروريا وقصدا ضروريا لمن هو فوق العالم، قد مرضت قلوبهم وفسدت فطرتهم، ففسد إحساسهم الباطن كما يفسد الإحساس الظاهر: مثل المرة التي تفسد الذوق، والحول والعشى الذي يفسد البصر وغير ذلك، ولهذا إنما يكون الاعتبار في هذا بذوي الفطر السليمة من [ ص: 564 ] الفساد والإحالة.

التالي السابق


الخدمات العلمية